عبد الله باخشوين
هناك حقائق حتمية.. لا بد للإنسان من مواجهتها.. والاعتراف بها رغم أنها قاسية ومؤلمة لا بديل لها.. وليس أمام الإنسان سوى التعايش معها بقناعة تهون قسوتها وتحولها إلى حالة من (الرضا) والقبول بعد النظر إليها كحقيقة واقعية لها مميزاتها وبهجتها وخصوصيتها أيضاً.
غير أن أصعب هذه الحقائق وأقساها.. تلك التي تبرز أمامك -ربما في غفلة منك- وتؤكد لك أنك رغم كل هذا الزحام من حولك.. وكل هذا الزحام الذي يصطخب فيك.. إنسان وحيد.. وحيد جداً جداً.. ولا شيء فيك (سواك) هذا -بالطبع- لن يحولك إلى كائن (موسوس- شكاك) ولن نقول إنه يجعلك (حذراً) لأنه في حقيقة الأمر يجعلك أكثر انتباهاً لما يدور فيك ويدور من حولك.
هذه (الانتباهة) هي التي توقد شعلة الذكاء فيك.. وتصبح قادراً -في لمح البصر- قادراً على فرز الزحام فيك وحولك فلا يصعب عليك التمييز بين الأعداء والأصدقاء.. فلا يلتبس أمرك عليك.
أما عندما تعود في المساء متعباً مكدوداً.. وتفتح باب بيتك فسوف تجد أنك قد فتحت كل الأبواب المغلقة فيك.. ودخلت إلى (كل الدنيا) زوجتك.. أولادك.. أشياءك الحميمة.. مقعدك الأثير.. رائحة كيانك الأليفة.. الصخب الحميم حولك.. كل من في البيت يتحدث في وقت واحد.. ولا تدري كيف توزع فيك انتباهك.. وسمعتهم وفهمتهم جميعاً دون عناء.
زمان عندما كان أولادي صغاراً كنت أتمني لو أنني أستطيع أن أشق صدري وأخبئهم فيه حتى لا يروا من الدنيا ما رأيت.. ولا يعاشروا من الناس بعض من عرفت وعاشرت.. كنت أريد أن أغلق عليهم أبواب صدري وأستريح.. ثم عندما كبروا قليلاً.. تمنيت لو أني أستطيع أن أركض أمامهم لأفتح لهم كل الأبواب المغلقة وأجنبهم العثرات أو السقوط.. وعندما حصلت ابنتي على (الثانوية) أرسلتها -شبة مجبرة- إلى كندا لتلتحق بشقيقها.. وعندما عادت في إجازة كانت تسابق الأيام في عدها.. وفي المطار عندما ودعتنا وهي شديدة الفرح بسفرها.. بكيت بعد أن أدركت أن (عصفورتي) اكتمل نمو ريشها.. وها هي ذي فرحة بقدرتها على الطيران.
تدافوا أمام الباب وذهبوا حيث شاء لهم الرحمن.. رحلوا بعد أن حرضناهم علي الرحيل.. وأشغلت أمهم وأغلقت باب وحدتي علي بعد أن أدركت ألا أصدقاء لدي.
في مواجهة وحدتي عرفت -دون تخطيط- أن وحدتي هي مصدر قوتي وليست مصدر ضعفي.. وشكرت في سري كل من تخلوا عني ودفعوني لها دفعاً.. معتقدين أنهم يفرضوا على نوعاً قاسياً من (العزلة)..
دون أن يدركوا أنهم جعلوني أواجههم ربما لأول مرة في حياتي.. مواجهة جعلتني أشعر بالخجل من نفسي بعد أن مضيت أستعرضهم -كل على حدة- وأصاب بالغم وأنا أسأل نفسي أين كان بصري وكيف غفلت عن بصيرتي.. وقبلت صحبة ورفقة أسوأ من خلق الله.. وقلت لا بد أن يكون (السوء) موجوداً في وليس فيهم.. أخذت أعاتب نفسي.. يا ولد سنين طويلة.. فين كنت غافل عن نفسك.. أم أن على عينيك وقلبك غشاوة حالت دونك والتمييز بين الصح والخطأ.
عندما التفت لزوجتي.. قالت تهون الأمر علي:
- أنا وعيالك قلنا لك من زمان.. قلت اطلعوا من البلد.. إيش يفهمكم في الناس.. مع أن كل واحد فيهم واضح زي عين الشمس..؟!
قلت ضاحكاً.. أحاول أن أهون الأمر على نفسي:
- يالله معليش.. كنت مسوي نفسي مثقف؟!