عبدالرحمن بن إبراهيم أبو حيمد
في الأول من الميزان، الموافق للثالث والعشرين من شهر سبتمبر تمر على المملكة العربية السعودية، وشعبها العزيز ذكرى عزيزة وغالية وثمينة، هي ذلك اليوم الذي تم فيه إعلان توحيد المملكة تحت اسم المملكة العربية السعودية.
لقد مضى على ذلك التوحيد ثمانية وثمانون يوماً وطنياً، مع أن مسيرة ملحمة التوحيد سبقت ذلك، حيث كانت بدايته في الخامس من شوال عام 1319هـ، وبذلك يكون مر على بدء التأسيس حتى الآن مئة وعشرون عاماً، الفرق بين التاريخين 1319هـ، 1351هـ قضاها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - في توحيد أجزاء المملكة، والقضاء على المعارضة التي كانت تثور ضده من دول أو أفراد.
اليوم الوطني في كل عام ذكرى تاريخية عزيزة، ووطنية ثمينة، وسعيدة غالية، على المملكة ككيان كبير، وعلى كل مواطن ينتمي إلى هذا الكيان، هي كذلك لأنها أحداث نقلت البلاد والعباد من تشرذم، وتفرق، وعداوة، وفقر، وجهل، وسوء حال إلى أمن، وأمان، وراحة، واستقرار، ورغد عيش، وتنمية في كل مجال، كل ذلك ثمرة كفاح طويل، وجهد مضن، ومخاطر كبيرة خاضها الملك المؤسس - جعل الجنة مثواه - ورجاله المحاربون معه.
وتاريخ المملكة العربية السعودية الذي سطر تلك الأحداث والحروب يوماً بيوم، وحدثا بحدث، يحكي تفاصيل الحروب الدامية، والتضحيات الجسيمة، التي بُذلت في سبيل التوحيد، هذا التاريخ المسجل والموثق جدير بالدراسة والتأمل والتحليل، لأنه تاريخ بلادنا ودولتنا، وصانع مجدنا، وأساس حاضرنا ومستقبلنا. واليوم الوطني مناسبة جيدة ومواتية، أن يقوم كل مواطن باقتطاع جزء من وقته للتمعن والتدبر في ذلك التاريخ، ومن نعم الله علينا أن نجد مصادر ذلك التاريخ متاحة، ومسطرة بأقلام سعودية موثقة، بعيدة عن التزوير والدس والتشويه، ومن تلك الكتب كتاب (تاريخ المملكة العربية السعودية) الجزء الأول والثاني للدكتور عبدالله بن صالح العثيمين- رحمه الله-، والذي طبع بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة بالرياض عام 1419هـ - 1999م، وكتب أخرى طبعتها الأمانة العامة لتلك المناسبة عن المملكة، وعن الملوك الذين تتابعوا في إدارة دفة الحكم.
ربما يعتقد بعضهم أننا وصلنا إلى ما نحن فيه من أمن وأمان ورخاء واستقرار بيسر وسهولة، ودون تضحيات تذكر، وقد يكون لديهم عذر في ذلك حيث لم يعاشروا مرحلة التوحيد والتأسيس، ولم يعيشوا الفترة التي عاشها أجدادهم وأسلافهم، وربما آباؤهم، ولكن ليس لديهم عذر في الاستمرار على هذا التصور، فالتضحيات الجسام، والحوادث العظام، والحروب المهلكة التي دارت هنا وهناك أثناء التوحيد والتأسيس، مسطرة في كتب التاريخ، من مصادر موثوقة، وما على الفرد إلا أن يطلع على تلك الكتب وهي كثيرة، وحديثة.
لقد حمل الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ورجاله الذين قدموا معه إلى الرياض في رمضان 1319هـ أرواحهم على أكفهم، وعاهدوا الله ثم أنفسهم إما النصر، أو الموت، وقالوا لجماعة منهم إن لم تسمعوا أخباراً مفرحة، أو نعود إليكم قبل ظهر الغد، فعليكم النجاة بأنفسكم، ولكن الله نصرهم، وجمعهم على النصر، هذه خطوة جريئة من الملك عبدالعزيز، وهو يعلم أن الحروب ثمنها إما النصر أو الشهادة، وحتى بعد استعادة الرياض وإعلان الحكم لله ثم لعبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، لم تنته تلك الأحداث والحروب القاتلة والمميتة، وإنما ظلت تقابلهم في كل حرب، أو معركة يخوضونها، إما لاستعادة مدينة أو منطقة، رفضت الطاعة والانضمام، أو لدفع هجوم من إمارة، أو قبيلة، أو منطقة معادية، وحتى بعد استعادة كل أجزاء الوطن، لم يخل تاريخنا من بعض الحروب المدونة في كتب التاريخ، والمعنى أن الثمن الذي دُفع لنصل إلى ما نحن فيه كان غالياً، وباهظاً وثميناً، فلنحمد الله على ذلك، ولنتعظ ونعتبر.
التوحيد والتأسيس جاء نتيجة أحداث مثقلة بالكفاح الشاق الطويل، وبالتضحيات الجسام بالأنفس والمال شمل ذلك وسط البلاد، وشمالها وجنوبها، وشرقها وغربها، حتى توحدت الأجزاء المشتتة، والمناطق المتناثرة، وصفت النفوس المتحاربة والمتعادية، فرضيت ببلد موحد اسمه (المملكة العربية السعودية) وبملك مؤسس وموحد اسمه عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، وبعلم واحد، وبذلك استتب الأمن والاستقرار، وتوقفت الحروب والمشاحنات والعداوات، وتوجهت جهود الجميع إلى بناء الإنسان بالتعليم والتربية، وتعليم الدين الصحيح، وحماية الإنسان وتحصينه من الاعتداءات، ومن الأمراض، وتوفير ما يحتاجه الإنسان السعودي من زراعة، وتعليم، وصحة وتنمية واستقرار، وهكذا شق السعودي طريقه في الحياة، فبنى الطرق، وأنشأ المدن، ووفر الخدمات من كهرباء وماء، واتصالات وبنى المستشفيات، والمدارس والجامعات، وامتلك التقنية، وطلب العلم في أي مكان يتوفر فيه، حتى صار منافساً ومقارعاً لبني جنسه من أبناء الدول الأخرى المتقدمة، لقد شقت المملكة طريقها التنموي الجبار، بعزم لا يعرف الكلل، وبحزم لا يعرف التردد والخوف، حتى أنجزت في مئة عام، ما لم تحققه الدول الأخرى في مئات السنين، ولازلنا سائرين في الطريق، نحقق ما نعذر أوفات تحقيقه، ونصلح ما لم نوفق في إصلاحه، ونضيف ما استجد من العلوم والتقنيات ومطالب التنمية.
هذه المنجزات في التنمية، وفي التعليم، وفي الصحة، وفي الأمن والاستقرار ورغد العيش ما كان ليتحقق لو لم يوحد البلاد الملك عبدالعزيز - حرمه الله على النار ووالديه - ولو لم يفرض الحكم على من كان يرى التقنية والعلوم، والمخترعات الحديثة، كفراً وإلحاداً، والتعامل مع أصحاب الديانات الأخرى شركاً وكفراً، واستغلال ما في داخل الأرض، من خيرات خروجا على الدين، لبقينا أمة فقيرة، متخلفة تحت رحمة شعوب العالم واستهزائه.
السعوديون في هذا العهد الزاهر يمر عليهم اليوم الوطني الثامن والثمانون، وهم يواجهون تحديات جساما، ومنجزات عظاما، أولها تحرير الشقيقة المجاورة اليمن من المد الصفوي الإيراني الذي يريد شراً للإسلام ديناً، وللعروبة قومية وهوية، وللمملكة بالذات بلد المقدسات والأمن والاستقرار والخيرات، ونحمد الله على أنه بدأ هدى قائد المسيرة الملك سلمان - رعاه الله - إلى اتخاذ القرار التاريخي ببدء معركة الحزم، التي شارفت بإذن الله على تحقيق أهدافها، ودحر أذناب إيران الحوثيين ومن ناصرهم، أما التحدي الآخر فهو تحقيق رؤية المملكة 2030 التي يقف وراءها بحزم وصلابة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع، -حفظه الله وأعانه بهديه وتوفيقه- والتي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل للمملكة، بدلاً من الاعتماد الكلي على البترول، وتشجيع وتأهيل الفرد السعودي ليكون عامل النجاح الأول في برامج التنمية، والاعتماد بعد الله عليه في أمن واستقرار، ورخاء البلاد، وكذا فتح البلاد للأموال والتقنية الأجنبية، لكي تشارك في تنمية وصناعة المملكة، ونحمد الله أن هذه الرؤية سائرة في برامج التنفيذ حسبما خُطط لها، وأنها كل يوم تحقق الأهداف المبتغاة منها، ومع هذين الحدثين المهمين، هناك أمور أخرى، لم تنسها حكومتنا الرشيدة، فالاهتمام بالمواطن، وتأمين الحياة الكريمة له، وتوفير التعليم والصحة، والرعاية الاجتماعية، والأمن والاستقرار، والطرق، والترفيه، والإسكان وغير ذلك لا يزال محور الاهتمام والعناية، ويحظى بما يحتاج إليه من اعتمادات وتمويل.
ما أحوجنا كسعوديين ونحن نعيش فرحة يومنا الوطني الثامن والثمانين، أن نتوحد صفاً واحداً، وأن نتآخى كأبناء رجل واحد، وأن نعي وندرك المسؤوليات الجسام التي تقع على كاهلنا، تجاه وطننا وولاة أمورنا، وحكومتنا، وشعبنا، فكل منا عليه مسؤولية جسيمة، وعظيمة تجاه هؤلاء، وتجاه ما نحن فيه من نعم، ورخاء وأمن واستقرار، ومن هذه المسؤوليات شكر النعمة والمحافظة عليها، وحمايتها من كل أذى وسوء، ورعايتها، نحن محسودون كأصحاب نعمة، ومستهدفون كأصحاب رسالة عظيمة، رسالة الدين الإسلامي الصحيح الخالي من الغلو والتطرف، ومستهدفون من كثير من الأعداء بعضهم في الداخل، وهم قلة ولله الحمد، والآخرون في الخارج وهم مدحورون ومهزومون بإذن الله تعالى.
أهنئ سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، وحكومتهم الرشيدة، والشعب السعودي، بهذه المناسبة السعيدة، داعياً المولى جلّت قدرته، أن يعيده علينا جميعاً أعواماً عديدة، ونحن في أمن وأمان، ونعمة ورخاء، واستقرار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
** **
- رئيس مجلس إدارة مؤسسة الجزيرة