نجيب الخنيزي
استطاع القائد المؤسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - بفضل توافر عوامل موضوعية وذاتية متعددة، يأتي في طليعتها المزايا والمؤهلات القيادية الفريدة التي امتلكها، توحيد معظم الجزيرة العربية في إطار دولة مركزية موحدة في أول وأنجح تجربة وحدوية عربية على الإطلاق في العصر الحديث.
بطبيعة الحال، لا ننكر وجود حفنة أو فئة قليلة من الحاقدين ولأهداف مشبوهة تشكك في هذا الإنجاز الوطني التاريخي بامتياز، وأبرز مأخذهم أن تلك الوحدة تحققت بالسيف أو القوة.
التساؤل هنا هل هناك وحدة وطنية أو قومية في التاريخ القديم أو الحديث تشكلت عبر الأساليب السلمية أو غير العنيفة، وهو ما يؤكده تاريخ نشوء الممالك والإمبراطوريات قديما، ونشوء الإمبراطوريات والدول القومية والوطنية في أوربا وآسيا والأمريكيتين (في العصر الحديث) على مدى القرون الماضية. لنتذكر هنا على سبيل المثال بطرس الأكبر في روسيا، وبسمارك في ألمانيا، وغاريبالدي في إيطاليا، والميجي في اليابان، وجورج واشنطن في الولايات المتحدة، وسيمون بوليفار في أمريكا الجنوبية ودورهم في إقامة كياناتهم القومية تحقق التوحيد، وتشكل الكيان الوطني على الرغم من الانقسامات والاختلافات الموضوعية (التاريخية) والذاتية العميقة، ناهيك عن التخلف والجهل والفقر والاحتراب، وبكلمة تخلف البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة آنذاك.
وفي إطار عملية التوحيد والبناء المتصلة توطدت الأسس والمرتكزات للانتقال من الوحدة السياسية/ الجغرافية إلى حالة من الوحدة الوطنية/ المجتمعية، ضمن سياقات وتجاذبات وتحديات داخلية وإقليمية ودولية على درجة شديدة من التشابك والتداخل والتعقيد.
الإنجازات الحضارية والاقتصادية والخدماتية خلال فترة قياسية (لا نغفل بالطبع تأثير اكتشاف الثروة النفطية الهائلة) أدت إلى تطور وانتقال حقيقي للسكان في المملكة إلى أوضاع جديدة على كل المستويات وقبل كل شيء تحقيق الأمن والاستقرار والرفاه والإنتاج الحديث والتحضر.
وهذه التبدلات البنيوية خلخلت إلى حد بعيد العلاقات الاجتماعية القديمة، والصلات التقليدية (التي ظلت قائمة بمستويات مختلفة) وهو ما فرض ويفرض باستمرار المراجعة وإعادة النظر والتقييم والنقد للتجربة والأنظمة والإجراءات التي لم تعد تتلاءم ومستجدات الحاضر ومتطلبات المستقبل.
لا بد من الإشارة إلى مسألتين على جانب كبير من الأهمية هما: المسألة الأولى الدعوة تحت حجة الاندماج في العولمة، ومراعاة وتلبية متطلباتها إلى التغريب وتذويب ومسخ الشخصية والهوية الثقافية والحضارية الخاصة، لصالح ثقافة استهلاكية هجينة مسيطرة تفتقد إلى المغزى والمضمون الإنساني الذي يستجيب مع متطلبات المستقبل ومصالح وأحلام البشر والناس العاديين. والمسألة الثانية هي عملية التكور والانكفاء الحضاري والثقافي والهروب إلى الماضي عبر استعادة أجوبة قديمة إزاء الأسئلة والتحديات التي يطرحها الواقع الحي والمتجدد بكل تعقيداته ومتطلباته واحتياجاته، وتجاهل حقيقة أن جميع البلدان والشعوب تنتمي إلى حضارة عالمية مشتركة حتى لو كان الغرب هو منبعها وصانعها الرئيسي في اللحظة التاريخية الراهنة.
هذه الحضارة هي ملك للبشرية التي تجمعها مصالح وأهداف وتحديات ومخاطر مشتركة وهو ما يتطلب إعادة النظر في حال الاستقطاب والانقسام العميق في المجالات الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية كافة بين دول الشمال (المركز) وبين دول الجنوب (الأطراف). تحديات التنمية والتطور والبناء تفرض على بلدان الجنوب وخصوصا المجتمعات العربية إذا أرادت أن يكون لها دور فاعل وجدي ضمن نظام العولمة، العمل على صياغة علاقات جديدة فيما بينها استنادا إلى المصالح القومية العليا المشتركة.
وهذا لن يتحقق إلا من خلال بناء الدولة العصرية الحديثة.
وبغض النظر عن الاختلافات أو بالأدق تعدد قراءات فهم الواقع فإن الوحدة الوطنية تمثل خطا أحمر لا يمكن تجاوزه تحت أي مسوغ أو عنوان.
فالانتماء الأول والأخير هو واجب الانتماء الوطني، وهو ما يستلزم تقوية عناصره ومقوماته، بما يجسد أحلام وتطلعات الناس في مستقبل أفضل، وهو ما تسعى إليه القيادة السياسية وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.