د. صالح بن سعد اللحيدان
إن مسألة النقد منذ 100 عام أو تقارب ذلك هي السائدة حينما يطلق هذا اللفظ على أي شخص يهتم أو يكتب في هذا المجال، ناهيك أن الذين يطلقون هذا الوصف لعلهم مجتهدون، لكنهم لا يفرقون بين النقد والانتقاد ووجهات النظر ودراسة العمل والعرض والاستيفاء لكتاب أو لرأي.
وهنا سوف أبيّن مثل هذه الحالات، فابن رشيق في العمدة ومثله ابن عبدربه ومثلهما فعل الأصفهاني في الأغاني، إذ خلطوا بين الدراية والرواية والخبر والرأي، فجاء ما طرحوه هناك مزيجاً بين العرض والاستقراء والطرح المواتي للسرد الإنشائي، وقد أخذ من هذا طه حسين وتوفيق الحكيم على أن كلمة الاستيفاء هي النقد، بل إن طه حسين حينما هذب (الأغاني) وقع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه صاحب الأغاني فأصبح تهذيبه عالة، لأنه - رحمه الله - كان ينظر من منظور عام خلط فيه بين النقد والاستيفاء والمعالجة، وفعل مثله العقاد في كتابه حينما تكلم عن أشتات اللغة وعقائد المفكرين، وهما كتابان جيدان في بابهما إلا أنه في كتاب الأشتات واللغة قد غاب عنه تحرير مسألة النقد، فجاء كتاب هذا الأخير في فروع العاطفة والنخوة تغلبت عليه في طرح الرؤى البديلة، ومثله فعل أحمد أمين في ضحى الإسلام خاصة حينما سرد وجعل مع سرده في هذا الكتاب شيئاً من الآراء إلا أنه من لوازم النقل كان يدرس الآثار والوقائع لكنه لم يعرض للنقد ولم يتعرض له، وكذلك فعل محمد حسين هيكل في كتابه حياة محمد، فقد فعل ثلاثة أشياء: نقل من سيرة ابن هشام، ومن السيرة الحلبية، فجاء كتابه سرداً تحليلياً فيه من الاختصار بقدر ما فيه من الإيراد للروايات على العلات، ولما كان ذلك الزمن في مصر وفي البلاد العربية لا يعولون على أسس النقد وموازين الطرح فإنهم ألصقوا صفة الناقد والباحث على هؤلاء، بينما الذي فعلوه إنما هو مجرد نقل مع شيء من الاجتهاد الذي وقعوا فيه في حال خطأ، وقد كانوا يظنون أنهم ينتقدون بعض الوقائع وبعض الآثار الواردة، من أجل ذلك أطلق على بعضهم (ناقداً).
وحينما نأتي إلى حمد الجاسر وبيني وبينه صلة ومواكبة في النقاش عن طريق الهاتف، نجد أنه مال كثيراً إلى التحقيق الزمني والتحقيق الظرفي للمسالك والبلدان، كذلك فيما يتعلق في الأنساب، وقد حرر بعض الأطروحات الجيدة التي جعلت طه حسين يثني عليه، وهو أهل لهذا، إلا أن المشكلة أن حمد الجاسر -رحمه الله- وقع في ثلاث حالات لم يحقق الآثار بحسب السرد السندي، كما أنه لم يحقق أصول الأنساب فيما يتعلق في الفروع والأصول والجذور، كما أنه - رحمه الله - جاهد كثيراً لتحقيق بعض ما أخطأ فيه بعض الأدباء كقصته مع عبدالقدوس الانصاري -رحمه الله.
والجاسر ذو شخصية قيادية ممتازة فيما يتعلق في تعليقاته وفي تحقيقاته، إلا أنه من الصعب أن يطلق عليه ناقدًا إنما هو دارس ومحقق للأعمال التي ظهرت في حينه وقبل حينه.
وإذا أتينا إلى عبدالقدوس الأنصاري وسعد الجنيدل - رحمهما الله - نجد أنهما أجادا فيما ذهبا إليه وسدا فراغاً ما كان ليكون لولا توفيق الله ثم بذلهما الجهد حيال بعض الأطروحات خاصة ما كتبه الجنيدل فيما يتعلق في بيان الأسماء والأماكن التي في صحيح البخاري، لكن لا يمكن أن يطلق عليهما ناقداً.
وأظن الشيخ الفاضل عبدالله بن خميس، وهو صديق عزيز - رحمه الله - لست أظنه بمنجاة من هذا، وإن كان أحد الفحول في أساسيات الشعر والاستحضار ومعرفة المواطن من المدن والقرى، إلا أنني لم أشم منه تحريراً تقول إنه نقد لكنه أجاد.
وإذا ما أتينا إلى كثير من المعاصرين ممن يكتب في المجال ذاته أو في مجال الأدب أو في مجال العلم الشرعي فإنك كقابض على الماء لا تجد إلا ما شاء الله من تقول إنه ناقد.
هناك دراسات وهناك أطروحات وهناك أخذ ورد اتسمت بتجذير العلم الشرعي والثقافة والأدب واتسمت بروح العمق كما هي عند المعاصرين الذين يكتبون في الملاحق الثقافية في العلم والثقافة واللغة، إلا أنك تفتقد إذا كنت ذا آلة استعدادية لمعرفة الفوارق والأنواع تفتقد النقد، كل الذي أراه ورأيته وعالجته في كتابي (نقد آراء ومرويات العلماء والمثقفين) الطبعة العاشرة إنما هو طرح للآراء والأفكار والرؤى الواردة عن الآخر.
وقد وجدت وأسفت لهذا كثيراً من يكتب على كتابه الناقد فلان أو يكتب كتاباً يدعوه (في النقد الأدبي أو النقد الأدبي) بينما ذلك عرض لما تم طرحه في العلم الشرعي أو الأدب أو الثقافة.
وأذكر أنني قرأت أن أحدهم أهدي إليه كتاب فطفق يقول وهو يعرضه، هذا هو الناقد الكبير الذي سبق غيره، وحينما قرأت هذا الكتاب وجدته كتاباً من أفضل ما قرأت في معالجة الآثار اللغوية والنحوية لكنه لا يرقى إلى صفة النقد إنما هو تهميشات وخواطر مع شيء من الاستشهادات التي يرى أنها من باب التجديد النقدي، بينما ذلك آراء أضافية وعرض ليس إلا، لكن لعل العاطفة غلبت على ذلك الرجل فقال ما قال بحكم الزمالة أو الأستاذية أو الإهداء ليس إلا.
ومن نافلة القول أبيِّن بحسب تجربتي في المجالات العلمية الدقيقة والقضائية الجنائية أن النقد في أصله موهبة لا يؤتاها كل أحد مثل الشعر، فقد يقرأ الإنسان كل يوم عشرة آلاف بيت من الشعر فإنه إذا لم يكن في الأصل موهوباً فإنه لا يكون شاعراً، فإن الشعر من الشعور والإحساس والشفافية كذلك النقد، ولذلك لا يجب الخلط بين النقد ودراسة العمل والعرض والتعقيب والملاحظة وإن كان بعضها يتسم بالقوة.
وإذا أتينا إلى العلم الشرعي وما يتم طرحه إلا ما شاء الله وما تبثه دور النشر فإنك واجد من الآثار الضعيفة والحسنة ما الله به عليم، كل هذا يدل على العجلة وعدم الرجوع إلى الأصول والمعالجة القوية الواثقة، وبعض هؤلاء يجعل ما يقوم به نقداً وإنما هو تحقيق وطرح للرأي المجرد.
ولهذا انتشرت منذ خمسين سنة النشرات والرسائل الصغيرة والكبيرة تعج بالآثار والأدلة التي تحتاج إلى نقد، ولهذا لا تجد من يرجع إلى كتاب (العلل) لابن المديني أو (العلل) للداراقطني أو (العلل) لأحمد بن حنبل، أو يعود إلى مقدمة (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم أو (للرفع والتكميل)، أو يعود إلى (مقدمة مسلم) مع ضابط قوي فاهم سديد مثله لا يريم.
وإذا أضفنا إلى هذا أن الحال في التجديد النوعي لم أجده حتى طرح هذا الرأي الذي لعلي فيه أصيب أكثر مما أخطئ، وما يوم حليمه بسر وإني لأطمع من النخب في المجالس العلمية والملاحق الثقافية أن يكون لديهم حس مرهف جيد وقوي لإثارة مسألة النقد المتكئ على أصوله وقواعده بعيداً عن الخلط فيما يتعلق في عرض الآراء أو التحقيق أو مجرد النشر أو طرح الرأي بقوة مع شدة الألفاظ، فإن هذا لا يغني من الحق شيئاً.
ولا جرم فإن القول في مثل هذا يحتاج إلى تأصيل لا بد منه،
وقد قرر كبار العلماء من النقاد في أحايين مختلفة أن النقد إذا لم يكن موجوداً فإن الحياة العلمية لا تقوم إلا على أساس لا يمكن أن تسير على ما يمكن أن يحصل منه قفزات نوعية.
ولعل في هذا القول القليل الذي أدونه هنا ما يغني عن الكثير.