د. محمد بن إبراهيم الملحم
سؤال سيجيب عنه كل منا مباشرة: لنتعلم العلوم والمعارف، ولكنما الجزء الأهم من هذا كله هو أننا نذهب للمدرسة في الواقع لكي «نتعلم الحياة»، فالعلوم والمعارف والمعلومات نحصلها من غير المدرسة (وإن كان تحصيلها في المدرسة أيسر وأسهل)، ومع توسع تقنيات التعلم الذاتي وفرصه المتعددة عبر الإنترنت والوسائط الإلكترونية الحديثة فقد تراجع عامل سهولة الحصول على المعلومة من خلال المدرسة وتزايد حجم المعرفة وأساليب تسهيل تعلمها خارج المدرسة، لذلك يعود السؤال التقليدي مرة أخرى يكرر صداه بلكنة ملحة قد يبدو فيها الغباء والدهاء معا: لماذا نذهب للمدرسة؟ لتكون إجابة: لنتعلم الحياة هي الإجابة الوحيدة ولا تزاحمها إجابة «اكتساب المعرفة» أبدا.. وطالما الأمر كذلك فما هي ياترى «الحياة» التي يتعلمها الطالب في المدرسة!
هي أولا المهارات والتي تكتسب بـ«التدريب» لا بـ«التدريس» وها نحن اليوم نرى المعلم «المتميز» ودونما حاجة إلى فلسفة من نوع ما في هذا المقال قد تحول بكل تلقائية من دور «المدرس» التقليدي إلى دور «المدرب» بصورته المعروفة كميسِّر لاكتساب المعرفة والمهارات فهو يستخدم وسائل التدريب وأدواته ويمارس استراتيجياته ويطبق تقاليده، المعلم المتميز اليوم في الصف الدراسي المدرسي يكاد يكون صورة للمدرب المتميز في معاهد ومراكز التنمية البشرية التدريبية المتفوقة، الهدف هو اكتساب المتعلم المهارة لا إكسابه إياها، والهدف أيضا هو استخدام مهارات المتعلم ومعارفه الأساسية للانطلاق منها إلى معارف جديدة ومهارات جديدة أو مطورة وليس الانطلاق من مهارات المعلم نفسه ومعارفه، والهدف أيضا أن يزرع المعلم في نفس المتعلم خصلة «التعلم» وخصلة «التعليم» فالطالب يعلِّم غيره أيضا من أفراد مجموعته في نمط التعلم التشاركي (أو التعاوني)، كما أن هذا النمط يزرع في نفسه الثقة بذاته وآرائه حيث يعطيه فرصة أوسع للحديث وإبداء الرأي، وهو في ذلك مشارك في صناعة المعرفة (حتى لو قال شيئا خاطئا) لا مجرد مستهلك لها فقط.
و»تعلم الحياة» هو أيضا فهم نمط المجتمع ومطالبه الاجتماعية بكل إيجابياته وسلبياته فالمتعلم يعيش الجو الخارجي الأكبر في هذه البيئة الصغرى المناسبة لمستواه العمري فيعايش كل حالاتها من العدالة والظلم، الحاجة والغنى، الثناء والنقد، العطاء والحرمان، الكرم والشح، الغضب والحلم، التدين والإنفلات، الصداقة والعداوة وما إلى ذلك، وهو من خلال بيئة المدرسة (ولكل مدرسة نمطها) تتشكل شخصيته وتتكون ملامحه الاجتماعية، وربما كانت نسبة هذا الأثر أكبر تأثيرا من الأسرة، فكلما قل اهتمام الأسرة بدورها التربوي تقدم عليه أثر المدرسة، ومع ذلك فلو توافر اهتمام الأسرة بالدور التربوي فإن أثر المدرسة يظل قويا بدرجة ملحوظة في صياغة شخصية الطالب باتفاق كل نظريات وأطروحات الدور الاجتماعي التربوي للمدرسة تقريبا.
ومن ضمن «تعلم الحياة» هناك تعلم القيم والعادات، حيث يكتسب العادات التي توفرها المدرسة فهناك عادة الالتزام والحضور مبكرا وعادة الحفاظ على الوقت والإنصات والقراءة والتأمل، أما القيم فليست حصرا على القيم الأخلاقية بل قيم العمل والأداء فهناك قيمة احترام الرأي الآخر وقيمة التعاون مع الفريق وقيمة احترام النظام وهكذا... هذه الجوانب المهمة لحياة أي مجتمع يتعايش بشكل منسجم ومتكامل ويقدر العمل والإنتاج ويعمل على التكامل والتوافق، ليغدو مجتمعا ناجحا يبني وطنا قويا ورفاهية مستمرة... كلها تُزرع في المدرسة وفي سياقها الاجتماعي، والمكسب الذي تحققه المدرسة للوطن (لأمنه واقتصاده وثقافته ورفاهيته) من خلال هذه المعاني هو أعمق وأشد تأثيرا من ذلك الذي تحققه من اكتساب العلوم والمعارف مهما بلغ فيها المتعلمون من مستوى. من هنا فإن المدرسة التي لا تقدم هذا الجو لم تعد مكانا للتعلم بل هي مكان لتضييع الوقت، فلماذا نذهب للمدرسة؟