عبدالعزيز السماري
يعتبر الفساد بكل ما يحمل من وجوه في تاريخ البشرية المحرّض الأكثر للتفكير الفلسفي والعقلاني، فقد كان وما زال الموقف منه يرسم مستقبل الاستقرار في مختلف المجتمعات البشرية، وهو ما يثير علامات الاستفهام، من خلالها يبرز التساؤل الأشهر: هل الفساد مكون أساسي في طبع الإنسان وفطرته، أم أنها مكتسبات وعدوى مرضية تزدهر في بيئات مهيئة لانتشاره؟
كثيراً ما تتكرر على المفسرين أسئلة حول معنى الآية الكريمة، وعن تفسيرها، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}، وعن كيف عرفت الملائكة أن في ذرية آدم من ستفسد في الأرض، وهو ما يجعل التساؤل حول طبيعة فساد الإنسان أمرًا يستحق التفكر.
ربما تبدو الحقيقة أكثر من انطباع سطحي عن تلك المساحات الأكبر في تاريخ البشر الدموي والفاسد، فالأمر له أبعاد أكثر، وربما يتكون من شبكة من العوامل التي قد تبدو سهلة للفهم، لكنها أصعب مما نتصور، فطبيعة الفساد نسبية إلى حد كبير، وكذلك تبدو ماهية الإصلاح أكثر تعقيداً مما نفهم..
السر يكمن في تلك الحرية والاستقلالية التي وهبها الله عز وجل للعقل البشري، والذي يملك فطرة التفكير خارج النمط الآلي، وهو ما يجعل منه عرضة لمختلف ظواهر المجتمع السلبية والإيجابية، ويأتي على رأس القائمة فكرة تملك الأشياء، وما يحتاجه المرء من قوة وعنف لحماية ملكيته ومكتسباته، وهو ما قد يختزل المسألة ربما في بعدي القوة والقانون أو بين الغريزة والانضباط.
قدم اللورد أكتون أستاذ التاريخ الحديث في جامعة كامبردج في عام 1895 المنهج الحديث لأهم أحداث التاريخ الكبرى، وهو رجل يملك عقلاً متحررًا من القيود، وتملأ أعماله الكاملة ثلاثة مجلدات كبيرة، لكن العامة من الناس حفظت عنه فقط مقولة شهيرة، وهي «إذا القوة تميل إلى الفساد، فإن القوة المطلقة تفسد على الإطلاق»، وكأنه بذلك يفتح الباب على مصراعيه لفهم أسرار تضخم القوى السلبية في طبيعة الإنسان..
ولا يحتاج العقل كثيرا من الجهد فالصورة واضحة في المحيط الإنساني الصغير، فعلى جميع المستويات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية إذا شعر الإنسان أنه خارج سيطرة القانون أو العقاب تتضخم فيه غرائز الفساد، ولكن عندما يتكون لديه خوف أو محاذير من تجاوز خطوط النظام أو القانون فإنه سيلجم قوته المندفعه نحو خدمة مصالحه، وهو وجه آخر للفساد.
لذلك يعتبر القانون الذي يسمو فوق الناس ويخترق صفوفهم ويكشف خداعهم هو المعلم الحقيقي للبشرية، فالمجتمع مهما كُثفت تدريس مواد الأخلاق في تعليمه الأولي يتحول إلى كائنات مفترسة في غياب القانون والمساواة تحت مظلته، وليس صحيحاً أن السلم الاجتماعي في دول أوربا الغربية سببه التعليم أو أخلاقيات مكتسبه من التعليم، لكنها سلوكيات فرضتها قوة القانون وعدالته، الذي من خلاله ينضبط الإنسان خوفاً من العقاب.
لعل هذه الرؤية المتواضعة تختزل كثيراً من المشاهد الحضارية في مختلف دول العالم، ففي العالم المتقدم يفرض القانون والسلطات المستقلة طبيعة الامتثال والصلاح على الجميع بدون استثناء، بينما تعاني دول العالم الثالث بإرث قديم ما زال يشكل أكبر معوق في مسيرتهم التنموية والحضارية..