د.فوزية أبو خالد
...يقترب اليوم الوطني فأشعر بأن كل كلمات الحب المبرح والعشق الفادح والشعر الخالص لا تكفي في حق الوطن، ولا تعبر عن تعلُّق القلب والعمر والحبر بإباء صحرائه وخيلاء نخله وعزة بحره وندى وعره وصلابة سهله وغلا رمله وشيم أهله.
يقترب اليوم الوطني فلا كلمات تباري كلمة الأمل في كتابة الحاضر والغد. وطن يريد أن يتجدد، ألا يكتفي بجاه القبيلة ولا بغنى النفط ولا ببخور التاريخ، ليكتب مستقبلاً مشرقاً على المجرة و»فوق هام السحب» والأهم على الأرض.
يقترب اليوم الوطني وثمة كلمات تمض الضمير وتجرح الحنجرة، وقد تسد مجرى الهواء عنا جميعاً في هذه المناسبة العزيزة، إن لم نقلها حباً وكرامة وثقةً في قيادة الوطن فمتى يحاكم متهم، يخرج معتقل يعالج العليل نضع حداً لآلام الحرب، وتعمل قوانا الاجتماعية والسياسية يداً بيد لكتابة مجد جديد للبلاد أرضاً وقيادة وشعباً.
***
يوم الكتابة الأول
أفشل في قطع يوم الكتابة الأول عن تقويم عمري، فكلما قلبت الصفحة الأولى على اليوم التالي فوجئت بمواجهة يومها الأول من جديد.
فلا تمر عدة أسابيع إلا ويعاودني كلما أردت الكتابة أياً كانت شعراً أو نثراً، نصاً أدبياً ، مقالة تحليلية أو بحثاً علمياً ذلك الشعور المزيجي بين الألم والاستعذاب، بين الحماس والاضطراب بين القلق والتوثب الذي عادة ما يصاحب البدايات الأولى، وخاصة في عمليات التعلُّم من تعلُّم المشي لتعلُّم الأبجدية. فينتابني في مثل هذه النوبات إحساس أنني أمام تجربة تعلُّم الكتابة، وكأن كل وقفة أمام بياض الشاشة هي تجريب للأجنحة وتجريح لريشها بمحاولة تعلُّم الكتابة من جديد لحظة بلحظة ويوم بعد يوم وسنة تلو سنة. ليتولد في داخلي ذلك الإحساس الذي يشكل خليطاً لما يسمى بالإنجليزي Anxiety، Overwhelmed الجزيرة uncertainty. وهي ليست مترادفات ولكنها كلمات لكل منها استقلالها في التعبير عن الإحساس بالتوتر والفيض والانخطاف.
ومن علامات تلك الحالة من التأهب والتهيب لشعور إعادة تعلُّم الكتابة كلما شرعت فيها، ازدياد ضربات القلب ، تعرُّق اليدين وفوران الحبر في الدم، وكأن كل كتابة جديدة رسالة غرامية أولى، وإن كانت قراءة لخطبة الحجاج الجهورية ومأساة الحلاج المستترة أو تحليلاً لقواعد العشق الأربعين، أو نقداً لسياسات إدارية وسواها.
غير أنني لست جادة في الشكوى من هذا الإحساس برهبة الكتابة ورهجتها المتجددة، وليس لدي نية للبحث عما يهدئ روعي، أو يعلمني أن الكتابة شأن عادي مثلها مثل آلاف المهن المتطلبة كالطب والسياسة والفيزياء والسينما والطبخ والصحافة. فما يدريني إن فقدت موقف التلميذ في حضرة الكتابة ألا أفقد في الكتابة وله الهواية وهواها العذري لا سمح الله، بما قد يحوِّل كتابتي الى مجرد عادة كالكثير من أعمدة الصحف، أو بما قد يجعلها محض استجابة لمتطلب وظيفي كبعض بحوث الترقية بالجامعات أو على الأقل بما قد يحرمني من هذا الحس النرجسي الفياض، هذا إذا لم تفقدني ثقة الخبرة لو قدمتها على رهبة التعلُّم، ذلك الحرص على اللياقة اليومية المطلوبة للكتابة حتى حين لا نكتب، ليكون من يطلب قرب الكتابة مرهفاً شفيفاً على أهبة التهيؤ قواماً وقامة وقلماً من قبل ومن بعد.
أعمل من فترة على بحث لأقدمه في اللقاء الأكاديمي السنوي لمؤسسة ميسا Mesa المعنية بدراسات الشرق الأوسط في أمريكا، فيما بدأ يقترب موعده في النصف الثاني من شهر نوفمبر، إلا أنني لا أستطيع أن أكتب بثقة وخبرة باحثة مخضرمة، ولا أن أستخدم أدوات العمل ببرود موضوعي ودربة متيقنة. فأجدني لا أكف لحظة عن دهشتي كطفلة غرة تبكي بتورط عاطفي وهي تقرأ المادة الميدانية الملتهبة التي قدمتها شهادات النساء عالمياً، وتتهيب كمتدرب مبتدئ وهي تقوم بتحليل الحديث المقارن بين الحياة في المنافي والحياة في الأوطان بعد الربيع العربي. وهذا كما لا يخفى خلافاً للموضوعية لمن أراد تبسيط الموقف إلا أنه مشتهى أي كتابة تعرف أن رسالتها الاكتشاف والاحتفاظ بخيط الدهشة الرهيف وبطاقة الشغف في كل عمل خلاق للكاتب والقارئ معا.
وآمل أنني في هذا المقال لم أُمنَ بفشل ذريع في الركض وراء سراب هذه الغاية ، وهي غاية كل الكُتّاب ومن ابتلي بغواية الشعر واستقامة الضمير.