هناك أسئلة ربما ظلت بلا إجابة أحياناً لأن المرء يحار مراراً وتكراراً في الإجابة عليها، كيف يعرف المرء مقياس الرقي في كل أمة؟ وما هي العوامل التي يُقاس بها رقي كل أمة من الأمم؟ قد تسمع هذه الأسئلة أحياناً أو قد تتبادر بعضها إلى ذهنك أنها أسئلة في منتهى الصعوبة بمكان لا يستطيع المرء أحياناً أن يحدد الإجابة بطريقة مقنعة؛ لأنه لا يدرك العوامل التي تساعده على وصول القيمة ذات الأثر الكبير ولا القيمة ذات الأثر الضعيف، قد يجيب إجابة سهلة وميسَّرة من طرف لسانه إن مقياس الرقي في الأمم الأخلاق، فأرقى الأمم أحسنها وأفضلها خلقاً ولكن تلك الإجابة لا تقنع المستمع فالأخلاق تتغير حسب العصور والأزمنة فالواجب على كل واحد منَّا أن يغرس أبجديات الأخلاق في نفوس الأبناء حتى يحقق واجباً غامضاً ليس محدد المعنى ولا معين الاتجاه، وقد كان آباؤنا في السابق يعدون من أرقى الأخلاق في الأمَّة حجاب نسائها وبناء سور متين بين الرجل والمرأة فأصبح الأمر واجباً أن ترى المرأة تتعلّم كما يتعلّم الرجل ومن حقها أن تسمع المحاضرات، كما أن الرجل يسمع المحاضرات وأن تتمتع بالحياة البريئة كما يتمتع الرجل فإذا قلنا إن مقياس الرقي الأخلاق كانت كلمة عامَّة تدل على كل شيء ولا تدل على شيء معين وهناك فئة من الأمَّة يقيسون الرقي بالدين وهي كذلك كلمة عامة يختلف مدلولها باختلاف أنظار النَّاس فيضيق الأمر عند البعض تارة ويتسع عند البعض تارة، والحق أن هناك مناحٍ للحياة مختلفة متعددة يجب أن يُنْظَر إليها كلها لتقويم الرقي إما إلى الأمام وإما إلى الخلف وكلها تتفاعل تفاعلاً قوياً فيؤثّر قويها على ضعيفها وضعيفها على قويها وكل هذه الأمور هي مقياس الرقي أو الانحطاط، فإن كان الأمر تغيّر إلى العلو والسمو فهذا أرقى وإن كان تغيراً إلى التدهور فهذا انحطاط، وهناك دلائل قوية تدل المرء على رقي الأمة وتدهورها وسيرها إلى الأمام أو إلى الخلف إما بمقارنتها بغيرها من الأمم في نواحٍ معينة أو بمقارنتها بنفسها في عصرها الحالي وعصرها السابق والمقارنة الأولى تدل المرء على الدرجة التي تقف عليها الأمة في سلم الرقي العام، وأما المقارنة الثانية فتدل على اتجاه سيرها إلى الأمام أو إلى الخلف.
ومن خلال هذه الدلائل تُعرفُ مواقف الأمَّة وما يحيط بها من ظروف طبيعية واجتماعيَّة ربما تعد هذه الدلائل وسيلة في تذليل المعوقات أمام الكفايات فخير الأمم من أعطت كافة السبل أمام أفرادها حتى يرتقوا كما يشاؤون حسب استعدادهم وجدهم، فإن الأمم المتقدمة قد قطعت في ذلك الأمر خطوات واسعة، فقد أزالت احتكار الأستقراطية للمناصب العليا وحاربت المحسوبيات وقضت على النظام الإقطاعي الذي يميز الطبقات ووضعت النظم الاقتصادية الحديثة ومن أجل ذلك لم يخطئ الكثير والكثير من الناس أن وضعوا مقياس رقي الأمة في مقدار تخليها على طبيعة بلادها وتعديل نفسها حسب ما يحيط بها لأنها لا تصل إلى درجة الرقي إلا بهذه الدلائل المهمة وكما أمة دخلها أقل وثروتها أضعف ولكن عقلها أكبر من ذلك وتصريفها لمالها أدق.