د. حسن بن فهد الهويمل
يذكِّرني عنوانُ المقال الذي انقدح في ذهني، وأنا أقلب نثار العام المنصرم، بكل ويلاته وإخفاقاتِهِ، بكتابين كانت لي معهما أقوى الوشائج؛ لما يحتويان عليه من نوادر، تمد بسبب إلى كُناسةِ عامنا المنصرم.
أحدهما من [كتب التراث] التي تستمد لحمتها الموضوعِيَّة من التجارب، والذكريات، والسير الذاتيَّة. فهو مصطبغ بشخصية المؤلف، وانطباعاتها، وتقلباتها، وليس خالصاً للمعرفة، ودقتها. كتاب:- [كُنَاسَةُ الدُّكَّانِ بَعْد انْتِقَالِ السُّكَّانِ] لِذِي الوزارتين أبي عبدالله لسان الدين بن الخطيب المتوفَّىَ مقتولاً بأبشع صور القتل في السجن عام 776هـ. كاتبٌ متمكن، وشاعرٌ أمكن. نُقِشَت أشعاره على حوائط [قَصْر الحمْرَاء] في غرناطة الفردوس المفقود.
والكتاب مجموعة رسائل سياسية، مَسْجوعة، مصنوعة، تحكي واقعاً مضطرباً، يكاد يكون أنكى من واقِعِنَا العربي.
وأما الآخر فكتاب: [كُنَاسةُ الدُّكَّان] للأديب المصري المعاصر [يحيى حقي ت 1992م]، صاحب السرديات الممتعة، والحاصل على عدة جوائز، لعل من أهمها [جائزة الملك فيصل العالمية].
وهو مجموعة مقالات، نشرها في أواخر حياته، تحدث فيها عن رحلتين مهمتين في مسيرته الأدبية، والعلمية:-
- رحلته في عالم الإبداع.
- ورحلته في عالم السياسة.
وكناساتي تتواشج مع كُناستَيْ المؤَلِّفَين؛ لأنها تُعَبِّر عما تركته أحداث العام المنصرم في العقل الباطن من ندوب غائرة، فاغرة، لم تلتئم جراحها؛ فكأنه [دُكَّانٌ] بارحه أهله، وتركوا فيه من دقائق الأشياء ما يدل على بضاعته.
فكم من مجروحين يتحاملون على أنفسهم، ويضحكون مع الضاحكين. والهموم تَفْري أحشاءهم، وتعتصر مشاعرهم، وتعركهم عرك الرحى بتفالها.
والشاعر الشعبي يجسد مثل هذه المواقف بقوله:-
[أَضْحَكْ مَعْ اللِّي ضَحَكْ والْهَمْ طَاوِيني... طَوْيَةْ اشْنُونَ العَرَبْ وِانْ قَطَّروا ماها]
- مع الاعتذار للعربية، والعروبيين -.
- فما هي كُنَاسَةُ العام المنصرم؟
إنها أشبه بـ[النفايات النَّووية] ومدافنها، والألغام المزروعة في أراضي الفتن، وخطورتها.
وما تذكرت شيئاً من تلك الكنائس إلا دعوت القريب المجيب من أعماق قلبي، وفي ظهر الغيب، وفي ساعات الإجابة للقادة، والمرابطين على الثغور، وعُرَّاب السياسة في [وطني]، الذين يدرؤون عن البلاد، والعباد ويلات الفتن؛ فهم كالمسؤولين عن تفكيك الألغام، أو تفجيرها في الهواء. لا يدري أحدهم متى يغفل لحْظ بصيرة، فيمزقه لُغْم من الألغام.
كُنَاسُ الدُّكَّان لا تَجْمَع أشيَاءه سمةٌ، ولا تتشكل مفرداته من نوع واحد؛ ففيها المهم، والأهم، وفيها التافه الحقير، والموجع الخطير.
عام يتسع رَحِمُه الوَلُود لـ[أحمر عاد] باتساع الأرض، وتتعدد أشياؤه بتعدد أناسيه. سِمَة ذويه التنازع على الأشياء، والتفرق في الدين، واحتكار الحق، ومصادرة حق الآخر. مع أن أرض الله واسعة، والقمم تتسع لكل قوي أمين، وحفيظ عليم، إلا أن العداوة في الدين تكاد تحمل على القتل، والتدمير، والمكر، والكيد:-
[كُلُّ العَدَاوَاتِ قَدْ تُرْجَى مَوَدَّتُها.. إلّا عَدَاوَةُ مَنْ عَادَاكَ في الدِّين]
ومن قبل جاء في الذكر الحكيم:- {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}، {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}.
والعاقل الحصيف المجرب قادر على الاحتواء، أو التحييد للأعداء كافة، واستغلال القواسم المشتركة، مع ترك ما في الصدور من غل، وما في القلوب من ريبة. فَعَدَمُ الرضا لا يحول دون تحييد العوائق، والتصرف بحكمة للاستفادة من الفرص المتاحة.
وهل أحد ينكر براعة العقلاء، ونُبل العباقرة في تجاوز العقبات، ورفع الملفات الساخنة، وتأجيل الحسم، والاقتناع بالممكن، متى كانت السياسة تعني [فن الممكن]:-
[إذَا أَنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَاراً عَلَى القَذَى... ظَمِئْتَ وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَارِبُه].
تلك واحدة من أكْنِسَة العام، وكنَائِسه. وهي في نظري الأهم، والأخطر؛ فالقطيعة والعداوة ليستا مطلباً إسلامياً، ولا قومياً. ثم إن عالمنا العربي غير مهيأ للمواجهة، لانعدام الندية. والمهتاجون العزل المرجفون يزجون بمصالح الأمة، ويَسْتدرجون شبابها للقتل، والتشريد.
وهم بهذا التهييج والتحريض جزء من اللعب القذرة؛ إذ ما من أحد من آلهم وذويهم نَهَض بما يدعون إليه. فهم، ومَن يحبون، ينعمون بوارف الظلال، وواسع الرخاء، والترف.
وإذ قيل لأحدهم اتق الله {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ}. وجَيَّشَ مريديه.
من كناسة العام المنصرم تعاظم الفتن بين أطياف المجتمع الواحد، وتفضيل خيار القطيعة والمواجهة على المصالحة والتعايش، أو تجاهل الواقع، والعمل دون تصوره، واستحضار معوقاته.
المملكة - على سبيل المثال - تعيش حالة حرب ضروس على جبهات عدة:- عسكرية، وإعلامية، واقتصادية، وأخلاقية، ومصيرية. ومع ذلك تجد من بين أبنائها من يوالي أعداءها، ولا يتحرج من فتح ملفات نائمة؛ ليوقظ النُّوم، ويَسْتَجِرَّ الغافلين، ويستدرجَ الفارغين. إنها كنائس مخيفة، تحمل العاقل على أسوأ التوقعات.
ومن كناساته السمَّاعون الذي يشيعون قالة السوء، ويتولون كبر الإفك:- {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
فحرب الشائعات جزء من [الحرب النفسية]، وتلقي قالة السوء ونقلها توهين للعزمات، وتشتيت للمواقف، وتشكيك في القدرات.
الأعداء ينفقون الأموال لافتراء الكذب، وتسويق الشائعات، فإذا دفنت في مهدها سلمت الأمة، وخسر الأعداء. وإذا راجت على الألسن، وتبادلها المغفلون، والماكرون. اهتزت الثقة، ونجح الأعداء. وكم في الكناسات من ويلات يشيب من هولها الوليد.
[إيران] تسرح، وتمرح، وتسفك الدماء، وتفسد في الأرض، وما من أحد في عالمنا إلا وفي أرضه شيء من دخن فتنتها.
أمنية [الصهيونية] العالمية تدمير [العراق]، و[الشام]. وقد تزعمت [إيران] عملية التدمير تحت شعارات أوهى من بيت العنكبوت. ولما تزل موغلة في الفتنة، وما من أحد نفض يده منها.
[الحوثيون] مدانون بكل خطاب، ومدعومون من كل خطاب؛ لأنهم و[حزب اللات] بارعون في تنفيذ [أَجِنْدَة] الأعداء.
إنها كناسات مثيرات للجدل، محيرات للعقول، موهنات للعزائم:- {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ}.
ويبقى العام يفيض بالكناسات، ويبقى المكتوون بويلاته يحرثون في أرضه بحثاً عن كناسة هي أشد من أختها.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. اللهم شِئْ لنا الخير، وسَخِّر لنا جنودك.