م. بدر بن ناصر الحمدان
المتمعن -وبإنصاف- في فلسفة عمل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني طوال مسيرتها ومنذ تأسيسها عام 2000م حتى هذا اليوم، سوف يرصد بُعداً نوعياً في أسلوب إدارتها للمسؤوليات ونمط تعاملها مع المهام التي تضطلع بها ويكمن ذلك في تَجَرُّدها من «حيازة» الأدوار والاختصاصات، وفن إدارة الممكن، فهي استطاعت أن تحول مؤسستها إلى «أرض خصبة» لانطلاق الكثير من الأفكار المبدعة، والمبادرات الطموحة، والتجارب الأكثر قدرة على تقديم نماذج مبتكرة وفريدة.
لست هنا بصدد الثناء أو المجاملة - فهي ليست بحاجة لذلك- لكن من الواجب تقديم مثل هذه التجربة كنموذج لعمل استثنائي على مستوى «البناء المؤسسي»، فالمراجعة الدقيقة لسيناريوهات سابقة تبرهن أن الهيئة بدأت في بناء قطاع السياحة من الصفر، وبإمكانات محدودة جداً، وبلا مصادر تُذكر، ورغم ذلك نجحت في تأسيس جهاز متين، ونظم محترفة، وغرس ثقافة عمل نوعية تجاوزت بها حزمة من التحديات والمعوقات والمرور إلى مراحل متقدِّمة في تهيئة قطاع السياحة، وكذلك تنظيم قطاع التراث الوطني في مرحلة لاحقة.
قلَّما تجد مؤسسة حكومية تبتكر الفرص للآخرين، وتُمكّن شركاؤها من استثمار مقوماتها من أجل تحقيق هدف مشترك، والوصول إلى إستراتيجيات موحَّدة، تضمن توظيف الموارد وتوجيهها بشكل أكثر إيجابية. لطالما كانت هيئة السياحة جهازاً «مُبْتَكِر» و»مُؤَسِّس» و»حاضِنٌ» لكثير من المبادرات والبرامج والمشاريع التي تبلورت داخل أروقتها وانطلقت إلى فضاءات عمل أخرى، وحققت نجاحات في فترة وجيزة، بل وتحول البعض منها إلى كيانات إدارية ذات استقلالية وشخصية اعتبارية.
يقول الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في كتاب الخيال الممكن: «أردت أن تكون الهيئة كمفتاح التشغيل الذي يؤجّج الطاقات في ماكينات العمل، ويدعها تعمل بذاتها، لأنني أدرك أن تحول هذا الجهاز إلى جهاز سلطات مطلقة في مهمة كالسياحة بحيث لا تستطيع أي فكرة أن تنفذ إلا من خلاله، سيكون كما أننا قد بنينا عائقاً بيروقراطياً ضخماً في وجه السياحة وهذا ما يتعارض مع سياسة الهيئة في الدعم والتمكين».
لك أن تتخيل أن هذه الفلسفة الإدارية بدأت منذ ما يقارب العشرين عاماً، في وقت كانت كثير من المؤسسات والقطاعات غارقة في دوائر نمطية وأطر معقدة من الأنظمة والتشريعات. لقد كان البعض يقرأ المنهجية التي كانت تعمل بها هيئة السياحة آنذاك وتدعو إلى تبنيها على أنها خروج عن النص، ومجرد ترف إداري أو تنظير لأفكار لا يمكن نقلها إلى حيز التنفيذ، وكان ذلك بمثابة نقد مستمر وموجّه لسياساتها وتركيبتها العملية، إلا أن ذلك لم يجعلها تتراجع أو تقف في منتصف الطريق، بل قرَّرت المضي قدماً من أجل بناء مستقبل يحلم به الجميع.
مرّ الزمن، ولم تتنازل الهيئة عن عقليتها الإدارية «المُبْتَكِرة» التي تؤمن بها وتعمل من أجلها، حتى جاء الوقت الذي تحولت هي إلى «بيت خبرة» ومصدر رئيس لكل من بدأ يستوعب أهمية المراجعة والتطوير وممارسة أساليب غير تقليدية لإحداث تحول نوعي على مستوى الإدارة والتحكم وبناء أجهزة قادرة على قيادة التغيير. «الانطلاق إلى الأمام» المبدأ الذي كان وما زال يضع الهيئة على منصة الاهتمام والمتابعة، وفي دائرة النقد والتقييم المستمر. يُقال: «إذا لم تحاول أن تفعل شيء أبعد مما قد أتقنته، فإنك لا تتقدم أبداً».