د.عبدالله بن موسى الطاير
يختصم المتخصصون حول مصطلح «الشعبوية» وما إذا كان في بروز أو أفول، وما إذا كان قصرا على اليسار أو اليمين، أم يمكن تلوينه وفقا للغاية من توظيفه. الواقع أن هذا المصطلح مازال محيرا، ويثير أسئلة محملة بالمخاوف فيما إذا كان سيعزز الديمقراطية والتعددية في الغرب أم أنه سيسلك سبيلا مقابلة لها. وهل هذه الحركة ستؤدي إلى شوفينية نازية تستدعي نماذج سابقة أوردت الإنسان المهالك أم أنها سوف تقتصر على الوصول للسلطة بمن يظنون أنه وحدهم فقط من يمثل الشعب ويقرر مصلحته وليس غيرهم. وهل الشعبوية لازمة للأنظمة الديمقراطية التي فيها تداول للسلطة أم أن الأنظمة الشمولية يمكن أن توظفها في خلخلة النسيج الاجتماعي لمحاصرة الأصوات الناشزة وقمعها بقسوة دون تدخل سلطات فرض النظام، وبذلك ينكفئ المصلحون والذين يمثلون صوت العقل، ويصمت تماما المعارضون السياسيون خشية من إحالة مشروعاتهم على العمالة لدول أو مؤسسات أجنبية من خلال هجوم شعبوي منظم تقف السلطات على الحياد الظاهري منه. وبمعنى آخر هل الشعبوية نواة لسلطة قمعية تلغي أي فرصة للحراك المجتمعي وبالتالي تحيل خطاب الأحزاب المعارضة والإعلام التقليدي الذي لا يسير في ركاب السلطات الحاكمة إلى خانة العداء للأمة والخيانة لشرعيتها كما يفعل الرئيس ترامب الذي يقنع نسبة لا بأس من الشعب الأمريكي بأن الإعلام المعارض عدو للشعب الأمريكي، وهي جرأة لم يسبقه إليها أحد من الرؤساء الأمريكيين.
يقول الباحث الألماني يان فيرنر مولر إن الشعبوية «يمكن أن تظهر غالباً كحركة ديمقراطية أو كديمقراطية راديكالية، لكنها في صميمها تقف على النقيض من الديمقراطية»، ويمكن لنا أن نضرب على ذلك بمثال من الممارسة البريطانية العريقة عندما تم استفزاز عامة الناخبين في بريطانيا من قبل نفر قليل من الساسة اليمنيين الراديكاليين، وألبوهم على الاتحاد الأوربي مما ولد تيارا كاسحا خرج مدفوعا بأجندة شعبوية غير واعية لما بعد قرار التصويت، فأشرقت شمس يوم الاستفتاء وبريطانيا عضو في الاتحاد الأوربي وغربت وهي خارجه. وعلى وقع هول المفاجأة التي لم تتصور النخب والعقلاء حدوثها، خرجت مظاهرات عارمة تجتاح الشوارع نادمة وباكية على مفارقة أوربا، وتوسلت وتقدمت بتوقيعات الملايين لتغيير واقع فرضه نفر يرون أنهم أدرى بمصلحة بريطانيا من غيرهم واستغلوا الممارسة الديمقراطية لتمرير مشروعهم الشعبوي ثم اختفوا بعد ذلك.
يدندن الشعبويون دائما على إعلاء شأن المهمشين والتافهين الذي لم ينجحوا في شيء سوى جلد الذات والمعارضة من أجل المعارضة، وبخاصة ممن ينضح خطابهم بشوفينية أو نزعات دينية أو عرقية أو وطنية متطرفة، ويعلون من شأن المواطنة النقية ويحذرون من المكونات التي اكتسبت المواطنة إما بالولادة أو الهجرة أو أية وسائل مشروعة للحصول على الجنسية، ويعتبرونهم أس البلاء، كما أنهم يميلون إلى إقفال البلاد في وجه أي وافد يمكن أن يلوث نقاء المواطنة أو يزاحم في العمل أو التجارة ويميلون إلى إقصاء كل مناهض لخطابهم. إنه يتوجب في رأيهم كما أشار مولر في كتابه ما (هي الشعبوية) «استخلاص الشعب الحقيقي من عموم المواطنين»، على غرار شعب الله المختار. ويضيف الكاتب «هذا يعني بشكل عمليّ سيطرة الشعبويين على السلطة، وإضعاف الضوابط والتوازنات أو تعطيلها بالمرة، نهج سياسة الزبونية ونزع المصداقية عن كل معارضة، سواء في المجتمع المدني أو الإعلام. وهم يقولون بذلك اعتماداً على شرعنة ذاتية أخلاقية واضحة: في الديمقراطية، يتوجّب على الشعب أن يمتلك دولته، والأعمال الخيرية يجب أن تعرف طريقها إلى الشعب الحقيقي، وليس إلى من لا ينتمي إليه، أما الأصوات المعارضة في الإعلام والمجتمع المدني فهي أصوات للقوى الأجنبية، وهذا كله يتناقض مع المبادئ الأصلية للديمقراطية».
الشعبوية حركة عابرة للقارات، وقادرة على العمل في المجتمعات الديمقراطية أو الاستبدادية وهم لا يرون إلا أنفسهم، ولا يؤمنون بغير ولائهم، وعندهم الغاية تبرر الوسيلة، ولكنهم في لحظة معينة يمكن أن ينقسموا على نفوسهم عندما يتدرجون في سلم النقاء، فيكون هناك من هم دون مرحلة الاصطفاء، ويمكن استبعادهم، وبذلك فبقدر وحدة الهدف التي يسعون لها، فإنهم يمثلون خطرا على السلطة عندما يضعون أنفسهم أعلى منها في تقدير مصلحة الشعب، والشعب هنا ليس غيرهم.