عبد الرحمن بن محمد السدحان
إيريك هوفر اسم مخلوق أمريكي عجيب لا أحسبه يقرع جرساً في دوائرنا الثقافية محلياً وعربياً وربما فيما وراء ذلك، لكنه في الغالب يقرع أكثر من جرس في (دنياه) الأم، الولايات المتحدة الأمريكية التي ولد بها عام (1902م)، وعاش فيها ردحاً من الزمن، كان يجمع بين (مأساة) الفقر ونبوغ الفكر، ورغم أنه نال من التعليم نصيباً متواضعاً، لكنه أسس لنفسه بنفسه قامةً ثقافية رفيعة جسدها في (ثقافة القراءة والتأليف) تناول من خلالها بكتابه الشهير (THE TRUE BELIEVER) (المؤمن الصادق) وهو بيت القصيد لحديث اليوم!
* * *
* عاش هوفر حياة مغرقة في الفقر، وكان يكسب عيشه عاملاً متنقلاً بين المطاعم والمزارع في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، قبل أن يلتحق (بوظيفة) ثابتة في أحد أرصفة تحميل وتفريغ السفن في ميناء تلك المدينة، لم يكن له خيار بديل لكسب قوته، واستمر في أداء تلك المهنة الشاقة عدداً من السنين، عاملاً في النهار.. ومثقفاً يمارس إبداعه الخاص.. كتابةً في الليل.
* * *
* كان الوجهُ الآخر لـ أيريك هوفر عصَاميته الثقافية، وكانت تمثل جزءاً مهماً من عجينة عبقريته وشهرته، كان يقرأ كل ما تقع عليه عيناه من مؤلفات تتناول الشأن الإنساني، وخاصة ما يتعلق بـ(صناعة الإرهاب) عبر جادّة (التطرف)، وقاده شَغفُه بالقراءة في هذا النطاق إلى الإغراق في بحث وتدبُّر مسألة (التطرف) من منظور سلوكي وفلسفي وإنساني، وكان اهتمامه بهذا الموضوع تحديداً هو (الرحم) الذي خرج منه أشهر كتبه بعنوان (THE TRUE BELIEVER).
* * *
* ويشاء الله أن أعثر على هذا الكتاب عام (1964م) ضمن مقتنيات مكتبة جامعة جنوب كاليفورنيا التي كنت أتابع فيها تعليمي الجامعي والعالي، وأُفَتن بقراءته حتى أنهيته، ولم أفرِّط فيه منذئذٍ حتى يومنا هذا، ضمن مكتبتي الخاصة.
* * *
* وتدور الأيام، وأعود إلى المملكة بعد التخرج من الجامعة في أمريكا وأنشغل بكسب العيش موظفاً، وذات يوم من عام 1431هـ (2010م) أهداني المثقف العملاق الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- كتاباً أنيقا ترجمه من الإنجليزية بعنوان (المؤمن الصادق) وحال اطلعت على الصفحات الأولى منه اكتشفتُ أنه ترجمة لذات الكتاب الذي شُغفتُ بقراءته قبل أكثر من (40) عاماً في لوس انجلوس لكاتبه أيريك هوفر، وقد اختار المترجم له عنوان (المؤمن الصادق).
* * *
* والكتاب في نسخته الإنجليزية معنىّ ضمناً منذ صفحاته الأولى بـ(الإرهاب) رغم أن هذه المفردة لم تردْ أبداً، وقد رسم المؤلف هوفر الجادة التي تقودُ إليه بدْءاً بـ(التطرف) وانتهاءاً بـ(الإرهاب)!
* * *
* وفي هذا الصدد، أشار معالي الدكتور غازي القصيبي في مقدمة ترجمته لكتاب إيريك هوفر إلى (أن الإرهاب وليد التطرف، جذوره وبذوره، والمعادلة التي يعرضها المؤلف بسيطة ومقنعة.. تبدأ بالعقل المحبط (الذي) يرى عيباً في كل ما حوله ومن حوله، وينسب كل مشكلاته إلى فساد عالمه!
* * *
* من هنا تبرز عبقرية مؤلف الكتاب إيريك هوفر بتحليل وتفسير ظاهرة (التطرف) تلك السكة المؤدية للإرهاب، قبل أن تدخلّ هذه المفردةُ قاموسَ الفكر السياسي المعاصر بعد الثلاثينات من القرن الماضي ميلادياً!
* * *
وبعد..،
* لقد حقّق إيريك هوفر قبل أكثر من نصف قرن عصاميةً ثقافيةً بمحاولة تفكيكِ مصطلح (التطرّف) إلى مكوّناته العاطفية والنفسية والسلوكية، مُنْطلقاً من (معضلة الإحباط) التي انطلقت منها شرارةُ الإرهاب قديماً مسْتتِرةً بدْءاً بالتطرف، ومن أحشائه تسلَّل الإرهابُ إلى كل مكان!