د. عبدالله غليس - باحث كويتي:
افترضَ الخليل بن أحمد الفراهيدي أشكالاً لبعض الأوزان لم تَرِد في الشعر الفصيح، وأقرّها في دوائره العروضية وهو لم يجد عليها من أشعار العرب شواهد، كما أثبت ما يُعرف بالأوزان المُهملة التي لم تَنظم عليها العرب، وقد يُقال إن طريقة «التقليب» التي انتهجها في دوائره العروضية هي التي فرضت عليه ذلك، إلا أن كثيراً من تلك الأشكال التي تصوّرها اُستعمِلتْ في الشعر النبطي المعاصر، وهذه من عجائبه، إذ كيف تصوّرها قبل ولادتها بمئات السنين؟!
من تلك الأوزان بحر المديد، ووزنه:
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن
الذي أثبته الخليل تاماً في «دائرة المختلف»، ثم ذكر أنه لم يأتِ في أشعار العرب إلا مجزوءاً، أي بسقوط تفعيلة من كل شطر:
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن
يقول الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه «موسيقى الشعر» متهكّما على الخليل: «والغريب في أمر الخليل ومن نحا نحوه أنهم افترضوا للأوزان أصولاً تطوّرتْ أو تغيرت حتى صارت إلى ما روي فعلاً في الأشعار، أن أصل البحر المديد هو:
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن
مدّعين أنه ورد في الشعر وقد سقطت منه التفعيلة الأخيرة، ولعمري كيف تصوّروا هذا؟! ومن أين جاؤوا بمثل هذا الادّعاء! وكذلك أن بحر الهزج كان في الأصل:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
لكنه لم يرد إلا مجزوءاً أي سقطت منه التفعيلة الأخيرة». انظر: موسيقى الشعر، د. إبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو، 2010، ص52، 53.
وقد فات الدكتور أنيس أن هذه الأوزان وردتْ في الشعر النبطي تامّة كما تصورها الخليل؛ فالمديد التام حاضرٌ في الشعر النبطي وأمثلته كثيرة؛ ومنه قصيدة سعد بن جدلان:
ودّنا بالطيب بس الدهر جحّاد طيب
كل ما تخْلص مع الناس كنْك تغشّها
وقصيدة ناصر الفراعنة:
ناقتي يا ناقتي لا رباع ولا سديس
وصليني لابتي من ورا هاك الطعوس
والهزج أيضاً جاء تامّا كما أثبته الخليل في دائرته:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
مع أنه لم يأتِ في الفصيح إلا مجزوءاً:
مفاعيلن مفاعيلن
مفاعيلن مفاعيلن
ومثاله في النبطي قول عبدالرحمن بن مساعد آل سعود:
مساء الخير والإحساس والطيبة
مساء ما يليق إلا بأحبابي
والمجتث كذلك جاء تامّا في النبطي كما تصوّره الخليل:
مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن
مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن
وهو لم يأت في الفصيح إلا مجزوءاً:
مستفع لن فاعلاتن
مستفع لن فاعلاتن
ومثاله في الشعر النبطي:
السيل يا سدرة الغرمول يسقيك
من مزنة هلت الماء عقربية
بل إن ثلاثة أبحر من البحور المهملة اُستعملت في الشعر النبطي؛ وهي «الممتد»، و«المستطيل»، و«المُطَّرِد»، والممتد عكس المديد التام، ووزنه:
فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن
فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن
ومثاله في الشعر النبطي قصيدة فهد بورسلي:
سلّموا لي على اللّي سمّ حالي فراقه
حسبي الله على الّي حال بيني وبينه
والمستطيل عكس الطويل، ووزنه:
مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن
مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن
وقد اُستخدم في الشعر النبطي وشاهده قول أحمد الناصر الشايع:
ألا يا عين هلّي دموعك يا شقيّةْ
على دورٍ مضى لي ألا يا عين هلّي
والمُطَّرِد بحرٌ مهمل في الفصيح ووزنه:
فاع لاتن مفاعيلن مفاعيلن
فاع لاتن مفاعيلن مفاعيلن
وهو دارجٌ في الشعر النبطي وشاهده قول محمد الأحمد السديري:
طارشي يم نجدٍ هي وأهاليها
ردّ مني سلام عاطرٍ حالي
فهل كان الخليل يعلم بأن هذه الأوزان سيُنظم عليها في يوم من الأيام؟ أم أنه يريد إغلاق هذا العلم فلا يكون لأحدٍ بعده فخر الاكتشاف؟! فللّه هذا الرجل! أيّ عبقري كان وأي عقل وُهِب؟!.