هدى مستور
تمتد يد الطفل إلى إحدى السلع أو اللعب من على إحدى أرفف المتجر ليتحصل عليها، فتمتد يد والده لمنعه وإعادة اللعبة، من هنا يبدأ الطفل بإظهار الامتعاض، والتعبير عن الغضب، ولم تفلح محاولات والده لإقناعه بغلائها، وعجزه عن سداد ثمنها، ولم يكف الطفل عن رفع الصوت بالبكاء، تتابع وعود والده المُحْرج لمنحه بديلاً عنها أقل سعراً. خرج الوالد وهو يغالب الشعور الظاهر بالحرج، يكسو شعوراً أكثر وخزاً وهو التأنيب لتقصيره تجاه ولده بتلبية رغبته.
لا تظن عزيزي القارئ أن الموقف السابق لا يعنيك، وأنك لست طرفاً في هذه الأدوار الساخنة، وأنك لم تتنقل قط بين تمثيل دور الطفل الذي مارس الابتزاز العاطفي تجاه والده، وإن كنت رجلاً راشداً قد تخطى العقد السادس من العمر! ودور الأب الذي وقع ضحية الابتزاز وإن لم تجرب الأبوة.
لا تعجب من أن مَن يمارس سلوك هذا «الطفل اللحوح»، هو شخص راشد، ولا يشترط أن يكون عدواً، فقد يكون محباً كذلك. وأنت بدورك تبادله الحب نفسه. الاستغلال العاطفي ضحاياه هم هذا الصنف من الناس الذي يثمن علاقته معك، ويخاف فقدك. المبتز يمارس ابتزازه بنجاح مع أناس لديهم قابلية، بل وهم من يساعدونه في استغلالهم؛ إذ هم أرقاء القلوب، يخافون على قلوبهم من خدش الصد والرفض. ويتجنبون أثناء سيرهم الارتطام بسؤرات الغضب، والتهديد بالرحيل.
المعرضون للابتزاز هم ضحايا المثالية الزائفة، فهم يريدون أن يظهروا أمام أنفسهم، والآخرين، بمظهر الفدائي من طراز نادر! وإلا فهو متمرد غاضب!. هم آمنوا بالقوالب الرائجة الكاذبة، والتزموا بمعايير التفاضل فيها حرفياً؛ فالزوجة الصالحة تبقى في خانة الملتزمة الصابرة، والأب المثالي ينفذ كل ما يطلبه أبناؤه منه، والابنة البارة لا تقل لا قط، والأم الرؤوم لا تعرف غير الاحتمال والتضحية...
وسرت لغة الابتزاز العاطفي حتى بين أدعياء الحب: فحين يبادر أحد الأطراف بالتعبير عن حبه أو إعجابه، ويلح في معرفة شعور الآخر تجاهه - وإن كان لا يسري هذا الحكم على الجميع - هو بذلك قد يصدر قانوناً صارماً، فإما أن تلتزم معي، وتبادلني الشعور والحقوق، وبالقدر نفسه، أو أنك مُدان لي. فيتحول الموقف لدى الطرف الآخر إلى شعور بهم ثقيل قد لا يحتمله، وكذلك ممارسة العبوس، والخشونة المفاجئة، وغير المبررة مع الطرف الآخر، هي في أصلها أساليب ابتزاز، وممارسة ضغط، بصورة غير مباشرة فإما... أو...
قد تبدو مقاومة هؤلاء المبتزين عديمة الجدوى، وإن نجحت في التحرر من سلطتهم، فسيخرج لك غيرهم كثير وبصورة متتابعة.
مراجعة النفس، وكشف الثغرات التي قد يتسلل من خلالها المبتز، ينبغي أن تكون في طليعة ما تفعله مع نفسك؛ فعلى سبيل المثال: التسامح هي صفة إيجابية بالنسبة لأفراد المجتمع الصحي، ولكن إن ازداد اتساعها فهي ثغرة تسلل للمبتز! فلن يبقى أمامك إلا التحكم في مستوى التسامح لديك.
الاحتياج للآخر، هي حالة طبيعية لبقاء العلاقات، وتبادل المصالح بين الناس، ولكنها نقطة ضعف إذا تأكد الآخر أن هذا الاحتياج لن يسده سواه! ولذا فالإجراء هو البدء بتعلم كيف يمكنك الثقة بنفسك، ورفع درجة تقديرك لذاتك، مع التدرب على الاستقلال، والاستغناء بالنفس عن الآخرين!
كذلك استمع لنفسك، وحاول أن تحدد ما الكلمة التي لم يرتح لها قلبك؟ أو ما الموقف الذي استوقفك تحديداً...؟ لا تغفل عن عملية المراجعة المتزنة لما يحدث لك لكن بعيداً عن الارتياب المرَضي، والمبالغة في الشكوك غير المبررة.
وإن لم يناسبك هذا الإجراء فعليك ببساطة أن تسأل نفسك: ما مقدار الشيء الذي يمكنني أن أقدمه للآخر دون أن أشعر معه بالضغط، والسخط، والندم؟! وما حجم الخسارة فيما لو قدمت له هذا الشيء؟.
لا تتردد من الاعتذار بصورة لطيفة، وبأدب جم، وإن لم يجدِ فلا بأس بأن تقول: لا، بحزم وشدة لا هوادة فيها، فهذا خير لك من بقائك رهين صراع مدمر.
تذكر أنك لن تخسر حباً، فالحب يُوهب، لا يُقرض! ودون أن يُقدمه لك، ثم هو ينتظر ما سترده له فضلاً عن طمعه في الفوائد الزائدة التي ستردها معه على مراحل مريرة من حياتك لن تنتهي!
الحب بريء من أن يعرضك لحالة ابتزاز، وهوان. الحب نقي من صور استغلال الضعف، والحاجة، والبراءة!
إنه الخوف وحده، هو من يحمل المبتز على استغلالك، وهو أيضاً من يدفعك للسماح له وقبوله.