د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
أجدُ الوفاء للإنسان والموقف وحفظه مطلوبًا في دنيا الناس وفي محطاتهم في القول والعمل, حتى وإن انقطعت الصلات؛ وهو من قبيل الفضل الذي وجَّه الله سبحانه وتعالى بعدم نسيانه، قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (237) سورة البقرة.
والناس في لحظات النور ليس من اليسير عليهم أن يغادروا ذكرياتهم؛ فثمة ما يدفعهم إلى «تذكر جيران بذي سلم» أو استيراد إطار كفاح واحد؛ وتمضي الحياة وثمة حضور يسكننا بقوة وإن كان يحيا طبقًا للقوانين الجافة؛ وعند ذاك تضطرب الأحكام, وتتجافى النفوس عن الصواب, ويصبح التروي فيها تكلّفًا, والتعقل انتزاعًا, وتغلق الأفهام عن التعامل مع المواقف, وقد تكون المعاني ذات مشقة في قبولها؛ أو ربما أحاطتها مشقة الإدراك والفهم، فهي من يقود الموقف؛ عند ذاك لا بدّ لقيمة الوفاء أن تحضر, وأن تتحوّل الكلمات إلى إمكانات تواشج لضخ المزيد من الاستبصارات المطلوبة قبل أن يصادر الفكر وتطمس الحقائق.
وأعتقد أن في أخلاق المسلمين الأوائل وما جرى بينهم وبين أهل الذمة منهجًا جديرًا بالتأمل؛ هذا إذا ما حدّدنا تجاوزاً المواقف في عالمنا اليوم وفي المجتمع الواحد وكأنها لا تنتمي إلى محيط مشترك....
نعم نحتاج إلى الوفاء للموقف وصاحبه عندما تشتدّ وطأة النبر, ونحتاجه عندما تتمزق منابع الحكمة, ونحتاجه عندما تختلط المعالم, ونحتاجه عندما تطمح الذات الطامعة إلى الانفصال عن منابع الخلق القويم, ونحتاجه عندما تبرز أمام الموقف معانٍ تميل كل الميل, وتصطف المفردات وتأخذ وضعًا متعاليًا في المدلولات؛ ثم نتساءل في تلك المواقف هل من حاجة للحديث عن البلوغ التام للمعرفة وعمقها في كل شيء حيث لم تُمْتَلَكُ جميعها لإنسان قط على وجه الأرض {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء.
والمقام يجعلني لا أتوقف عند تلك القضية المعقدة في دنيا الناس اليوم التي تلزم البشر بالوفاء للمواقف, علاوة على صانعيها, يكفي فقط أن نلاحظ حظ الموقف من الواقعية ومن ثمّ حظه من التمعّن والاستبصار؛ فالاستخفاف بالموقف والفكرة خيانة للمصلحة المرتقبة، ومن الوفاء للموقف أن لا نتجاوز نطاق الفائدة إلى محسوب ذاتي آخر, بعيد عن حجم التلقي المتنوع للمعرفة والرأي.
وفي السياق ذاته حين نعد الوفاء بمفهومه الأخلاقي ومصطلحه الذي ورد في كلام الله عزّ وجلّ؛ نعدّه داعمًا للمواقف الإيجابية, وللاستفادة من الرأي الآخر؛ فإننا نشير بذلك إلى نمطين كل منهما يمثل إمكانية للحصول على إشارات ذات قيمة إنسانية, وقيمة إصلاحية؛ أولها الوفاء لمن أقام قواعد التنظيم, وسعى في إصلاح أسبابه, وأدواته عند أعلى المستويات الممكنة, فهو إذن وفاء للمؤسسة وأعمالها؛ والآخر في نموذج التقدير والاحترام وحفظ الجميل, وليس هو ذا أهمية في ذاته, إنما هو دين إلى متلق استرعت انتباهه الثغرات والفجوات؛ فأراد ردمها, فلماذا لا نلاحظ الرصف الجيد للطرح ولا نركز على السارد وإن علا؛ ولله درّ المعري حين قال..
لبيب القوم تألفه الرزايا
ويأمر بالرشاد فلا يُطاع
إن تواكب هاتين القيمتين، الوفاء للمصلحة, والوفاء للموقف الإنساني بمنزلة الوفاء للنظام، ودون ذلك إمعان في تصدع النظام، وفي نهاية السنوات المضطربة كان لا بد للوفاء من حضور أخّاذ؛ ليغطي مساحات واسعة من حقول الوعي الجمعي من خلال النماذج الذهنية المتفردة, ومستويات التطبيق المثلى لطقوس الوفاء لبناء وشائج قبول الآخر, والوفاء للمتفرد من العقول, وطرح التعامل به كقيمة أخلاقية ذات نسق عالٍ, وحضور باذخ في أزمنة التصحُر والذات المتعالية.