الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
أكد خبير للأوقاف أنه متى تمكنَّا من إعادة الوقف إلى سابق عهده ليقوم بدوره في تنمية المجتمع، فإنه لن يعود بأشكاله القديمة مثل: الكتاتيب والزوايا والملاجئ والتكايا بأشكال جديدة تتمشى مع الحياة المعاصرة بكل فنونها وتقنياتها الحديثة.
وأوضح الشيخ سليمان بن جاسر الجاسر رئيس مركز واقف الخيري أن مصارف الوقف توسعت في العصر الحاضر نتيجة الانفجار السكاني الهائل، وما تبع ذلك من تطور هائل في التقنية ولوازمها، ولأنَّ لكل شيء ضريبة، ولكل تطور آفات فإن ذلك متبوع حتماً بمضار وآفات، تطلبت نظراً آخر أيضاً، مشيراً إلى أنه من المتقرر شرعاً أن مصارف الوقف في الجملة هو البر والقربة، ووجوه البر كثيرة ومتجددة بتجدد صور حاجات الناس وما ينتفعون به في أمور دينهم وأمور دنياهم، وهذه المصارف منها مصارف متكررة مشتركة لا فرق فيها بين زمن وزمن، وإن كانت قديمة الجنس إلا أن بعض وجوه الصرف فيها جديدة مثل : تكييف المساجد وفرشها، وطباعة الكتب الشرعية ونشرها، ومن هذه المصارف مصارف جديدة حدثت بسبب تجدد الحاجات الناتجة عن تغير أحوال الناس وكيفية حياتهم وسبل معاشهم.
وسرد الشيخ سليمان الجاسر جملة من المصارف الجديدة التي تحتم النظر فيها، والقيام بها لأهميتها في العصر الحاضر، ومن ذلك:
الإعلام: حيث يمكن عن طريق الإعلام الهادف تبصير الناس بدينهم، ودحض الشبهات، وإظهار الإسلام على حقيقته، ودعوة الناس إليه، وتبليغ دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وبناء المساكن لأئمة ومؤذني المساجد؛ فيوقف على كل مسجد مسكن للإمام ومسكن للمؤذن إعانة على الانتظام في الحضور لقرب السكن من المسجد، وتشجيعاً لهما على القيام برسالة المسجد.
وقد انتشر هذا النوع من الوقف ولا سيما في المملكة العربية السعودية، وتخفيف الآلام عن المصابين وأصحاب الحمالات، ومثل هذا النوع من أبواب البر قديم قدم الشرائع ولكن الجدة فيه، من حيث كونه مصرفاً من مصارف الوقوف الحديثة، والتفريج عن المعسرين عن طريق القروض المؤجلة أو المساعدات، وهذا من المصارف التي ذكرها من يرى جواز وقف النقود، ويتم ذلك بعدة وجوه منها إقراض المعسرين وإنظارهم، وهذا المصرف في الصورة الحديثة يكون بالإقراض من غلة الوقف لا من أصله كما في وقف النقود؛ أي بأن تدفع مضاربة ويتصدق بفضلها وربحها في الوجه الذي وقف عليه.
تفطير الصائمين وقد كانت توقف الأوقاف على تفطير الصائمين بكثرة وفي هذا الوقت انتشر تفطير الصائمين بكثرة ولكن في الغالب من صدقات مقطوعة، وتكييف المساجد وتهويتها وذلك بسبب تغير حياة الناس وحاجتهم إلى آلات التهوية والتكييف العصرية وهذا مما يعين على الخشوع في الصلاة وعدم الانشغال عنها بسبب الحر والبرد،وتمويل مسابقات إذاعة القرآن الكريم وهذا المصرف فيه إعانة على البر والتشجيع على حفظ القرآن الكريم والعناية به وهو من أشرف المقاصد، والعناية بالقرآن ليست جديدة إنما الجدة في الصورة المذكورة، ودعم المراكز الإسلامية التي تنتشر - ولله الحمد - في أنحاء العالم وغالبها في بلاد غير المسلمين تفيد منها الأقليات الإسلامية في تلك البلاد وهذه المراكز تحتاج إلى المال وإلى الدعاة والأوقاف مصدر ثابت في الغالب فدعمها بالأوقاف متعين، ودعم المعاهد والكليات الخيرية في العالم الإسلامي، ودعم النشاطات الدعوية التي لا يجوز الصرف عليها من الزكاة، ولها أهميتها، ورعاية أسر من غاب عنهم عائلهم وتوفير الاحتياجات اللازمة لهم فترة غياب عائلهم، وأصل ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازياً في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا»، وهذا المصرف من التضامن والتعاون والتراحم بين المسلمين.
مجالات جديدة
ويمضي الجاسر في حديثه بالقول: لقد كان الوقف بأشكاله المختلفة من أبرز الطرق التي قادت النهضة الفكرية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الإسلامية، على مدار العصور السابقة، ويمكن للوقف أن يقوم بالدور نفسه -إذا استعاد مكانته السابقة- على أنه يمكن أن يسهم الوقف في حل المشكلات التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية في الوقت الحالي، مثل: مشكلة الأمية، والبطالة، والتخلف العلمي والتقني، ومشكلات التنمية الاقتصادية، فمثلاً الوقف ومشكلة الأمية: فعلى الرغم من أن الإسلام يدعو إلى العلم والتعليم، إلا أنه -للأسف- يلاحظ ارتفاع نسبة الأمية في العالم الإسلامي، والتي بلغ متوسطة حولي 50.6 في المئة من السكان، وكذلك عدم اهتمام الدول الإسلامية بالتعليم العملي، والتركيز على التعليم النظري.
كما تسهم أموال الوقف في الرفع من شأن العلم والعلماء، وذلك بالمساعدة في متطلبات التعليم من كتب ومساكن للطلاب ذوي الدخول المنخفضة، وكذلك تخصيص جزء من أموال الوقف لمنحها للمتفوقين من الخريجين والأوائل في المراحل التعليمية المختلفة.
ويمكن للوقف الإسهام في مشروعات تخدم الناحية العلمية والثقافية في المجتمعات الإسلامية، من حيث إنشاء قنوات تليفزيونية عن طريق أسهم وقفية تطرح على المسلمين القادرين، ويمكن أن يكون بعض الأسهم وقفاً وبعضها استثماراً، وإنشاء جرائد ومجلات إسلامية باللغات الحية في عواصم العالم، وفي البلاد الإسلامية المحرومة منها، وإنشاء بعض الجامعات الإسلامية العصرية، ورعاية مئات المعاهد والكليات والمدارس الموجودة في البلاد المحتاجة، كالهند وباكستان وإندونيسيا وبعض دول أفريقيا الفقيرة التي يوجد بها أقليات مسلمة، وإنشاء مكتبات عامة إسلامية وعلمية في القرى والمدن، ويمكن للقادرين في كل بلد أن يتبرعوا لذويهم بهذه المكتبات، والتشجيع على التبرع بمكتبات من الدول الغنية والأفراد الأغنياء في العالم الإسلامي لإخوانه في البلاد الفقيرة، وإنشاء دور نشر إسلامية في البلاد المختلفة، ترصد جزءاً من رأسمالها وأرباحها لتيسير وصول الكتاب الإسلامي لطلاب العلم والباحثين في كل مكان بأسعار مناسبة، واستئجار مواقع على شبكة المعلومات العالمية «الإنترنت» وتخصيصها لنشر تعاليم الدين الإسلامي، وتعريف العالم بالإسلام وأحكامه، ودعم برامج التواصل الاجتماعي في هذا الشأن.
البحث العلمي
وأشار الشيخ سليمان الجاسر إلى أن الدول الإسلامية قد تخلفت كثيراً عن الدول الغربية في مجال البحث العلمي واستخدام التقنية الحديثة في الزراعة والصناعة وغيرها، ويمكن للوقف أن يسهم في نهوض الدول الإسلامية في هذا المجال عن طريق مشروعات مختلفة إنشاء مراكز الحاسب الآلي «الكمبيوتر» للتعليم ولرصد البيانات والمعلومات المختلفة وتحليلها وتقديم هذه المعلومات إلى الجهات التي تطلبها بدون مقابل أو بمقابل رمزي، وإنشاء معامل للبحوث الزراعية والصناعية والطبية، للقيام بعمل الدراسات والبحوث المعملية التي تحتاج إليها بعض الجهات، وإنشاء أوقاف خاصة برعاية البحث العلمي ومساعدة الباحثين ورصد الجوائز المالية للمتفوقين منهم لتشجيعهم، وربط نتائج البحوث العلمية وتطبيقها بمجالات الإنتاج المختلفة، من خلال ترويج هذه البحوث ونتائجها وبيعها لوحدات الإنتاج، مع تخصيص جزء من عائدها للعلماء والباحثين أصحاب هذه البحوث، وتخصيص بعض أموال الوقف لاستنباط الحلول العلمية المناسبة لبعض المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع، وذلك باستخدام التقنية الحديثة مثل : زيادة موارد المياه، ومعالجة ملوحة الأرض، والتخلص المفيد المربح من الملوثات والنفايات الضارة، مثل توليد الطاقة الكهربائية منها، أو تحويلها إلى أسمدة، وإنشاء المكتبات العلمية وتزويدها بأحدث الكتب والمراجع العلمية التي يحتاج إليها الباحثون في عملهم.
مشكلة البطالة
وشدد خبير الأوقاف على أن مشكلة البطالة في الوقت الراهن تمثل إحدى القضايا الأساسية التي تواجه معظم دول العالم، فهي تعد من أبرز سمات الأزمة الاقتصادية العالمية، وهي الجزء الغير مستغل من الطاقة الإنتاجية للمجتمع، ومن ثم فهي عبارة عن وسائل إنتاج معطلة ومهدرة، وللبطالة عدة أشكال أهمها : البطالة السافرة أو المزمنة، والبطالة المقنعة، والبطالة الدورية أو الموسمية داخل صناعة أو حرفة معينة، أو فنية تنشأ عن تقدم علمي في وسائل الإنتاج.
ويلاحظ أن القوى البشرية تعتبر الدعامة الرئيسة للنظام الاقتصادي لكل دولة من دول العالم، ولذا تهتم الدول الساعية للنمو بدراسة هذه القوى لما لها من آثار اقتصادية واجتماعية، حيث إنها أحد العوامل الرئيسة للإنتاج في الوطن.
ومما لا شكَّ فيه أنه يمكن أن يقوم الوقف الخيري بدور كبير في القضاء على مشكلة البطالة، حيث يمكن عن طريق وقف بعض الأموال من إنشاء بعض الصناعات الحرفية لتشغيل الكثير من العاطلين بها. كذلك يمكن عن طريق أموال الوقف إمداد بعض العاطلين بالمال اللازم على سبيل القرض الحسن من أجل الاتجار فيها بمعرفة ذوي الخبرة منهم في هذا المجال.
كما يمكن استغلال جزء آخر في إنشاء مؤسسة تعليمية لبعض الحرف الصناعية المختلفة، للرفع من كفاءة وتدريب هؤلاء العاطلين تمهيداً لتشغيلهم في المصانع وشركات الإنتاج المختلفة، أو العمل على مدهم بالمعدات الإنتاجية اللازمة لصناعاتهم، كما يمكن تمويل ذوي الأفكار وأصحاب الخبرات والتخصصات، حتى يتمولوا إلى أصحاب أعمال ومهن.
كما يمكن استثمار أموال الوقف في المشروعات الاقتصادية العملاقة التي تحقق أرباحاً كبيرة، لاستغلال عائدها في الإنفاق على أبواب الخير المختلفة، ومنها : الاستثمار في مشروعات الإنتاج الزراعي مثل : مزارع الفواكه والحبوب، مزارع الدواجن، ومنتجاتها، مزارع الأبقار ومنتجات الألبان، المزارع السمكية، تعبئة وتجميد اللحوم والفواكه والخضروات وغيرها، والاستثمار في استصلاح واستزراع مساحات واسعة من الأراضي الصحراوية والمناطق النائية، ثم استغلالها إما بطريق التأجير، أو المشاركة مع الغير في زراعتها، واستثمار الأراضي الموقوفة - داخل المدن - في مشروعات الإسكان التي تسهم في حل أزمة السكن، وفي الوقت نفسه تحقق دخلاً كبيراً لصالح الوقف. واستثمار أموال الوقف في مشروعات الخدمات الحديثة التي تدر عائداً كبيراً.
وأشار الجاسر إلى أن مصارف الوقف لا حصر لها، لأنها مبنية على الخلاف في الشروط والأركان، ولأن لتطور العصور وتقدمها أثراً في استحداث مصارف وقفية لم تكن معروفة من قبل، ولذلك فإن محاولة حصر المصارف - والحال كذلك - متعذر.
فإن من يرى جواز وقف ما لا ينتفع به إلا بإتلافه، يجوز وقف الريحان ليشمه المصلون، ومن يرى جواز وقف المنقول وهم الجمهور، يجوز وقف الأكسية والأغطية للمحتاجين، وأيضاً فإن انتشار الأمراض في الأزمنة المعاصرة، أحوج حاجة ماسة إلى استحداث مصارف يكون ريعها لصالح هؤلاء المرضى، كان يستحدث وقفاً لمرضى السرطان، ونحو ذلك.