لا أذْكُرُ أيْنَ قَرَأتُ لِحَكيمٍ عِبارَةً تَقولُ: «حينَ كُنْتَ جَنينًا في الرَّحِم، كُنْتَ ناعِمَ البالِ هادئَهُ، حَتَّى إذا حانَتْ ساعَةُ رَحيلِكَ عَنْهُ إلى الدُّنْيا، قاوَمْتَ الخُروجَ حَتَّى اسْتَعانوا عَلَيْكَ بِالقابِلَةِ «المُوَلِّدَةِ».. وَأخيرًا نَزَلْتَ صارِخًا، مُضمِّنًا صُراخَكَ هَذا، احْتِجاجَكَ عَلى الَّذينَ أخْرَجوكَ مِنْ جَنَّتِكَ! لَكِنْ، حينَ كَبرْتَ، اكْتَشَفْتَ جَمالَ الحَياةِ وَتَعَلَّقْتَ بِها، وَذاتَ يَوْمٍ آخَرَ، سَتُدعَى إلى الرَّحيلِ عَنْها، وَأنْتَ تَجْزَعُ سَلَفًا مِنْ الموْتِ.
أمَّا الخَطَأ، فَلا مَهْرَبَ لإنْسانٍ مِنَ الخَطَأ..
مِنْ أجْلِ هذا، لا أقولُ لَكَ: «تَجَنَّب الأخْطاءَ!»؛ لأنَّ هَذا يُشْبِهُ أنْ أقولَ لَكَ: تَجَنَّب الحَياةَ!
إنَّ اللهَ يُخاطِبُ النَّاسَ فَيَقول: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنَفُسَكُمْ) [النجم: 32].
فأنْتَ، يا ابْنَ الأرْضِ، ويا حامِلَ تَرِكَةِ الآباءِ والأجْدادِ، في طبيعَتِكَ الخَطَأُ..
وذَلِكَ لا يَعْني أنْ تَسْتَسْلِمَ لِلْأخْطاءِ.. أو تُوغِلَ فيها بِغَيْرِ حِسابٍ.
إذَنْ، ماذا عَلَيْكَ أنْ تَفْعَلَ؟
هُوَ ذا: «ارْتَكِبْ أنْظَفَ الأخْطاءِ»..
اجْعَلْ هَذِهِ العِبارةَ إحْدى- بَلْ أهَمَّ- قَواعِدِ سُلُوكِكَ؛ تَنْجُ مِنْ كَثيرٍ مِمَّا يَسوؤكَ التَّوَرُّطُ فيهِ..
إذا كانَ لابُدَّ مِنَ الخَطأ، فَلْتَكُنْ أخْطاؤكَ كَريمَةً، نَظيفَةً، فَإنَّ الأخْطاءَ النَّظيفَةَ تَحْمِلُ إمْكانَ التَحَوُّلِ وَالتَّعْلِيَةِ.
وَلا أحْسَبُكَ بِحاجَةٍ إلى أنْ أُبَيِّنَ لَكَ: ما هُوَ الخَطَأ النَّظيفُ؛ فَالحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ.
وَلَكِنْ، إذا كانَ في ضَرْبِ الأمْثِلَةِ ما يُفيدُكَ؛ فَدَعْني أضْرِبْ لَكَ هَذا المِثالَ.. لِنَفْتَرِضْ أنْ قَدْ شَجَرَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ آخَرَ خِلافٌ، تَطَوَّرَ إلى رفْعِ الصَّوْتِ وحِدَّةِ المِراءِ، فَتَسابَبْتُما، وتَشاتَمْتُما..
إنَّ تَبادُلَ السِّبابِ وَالشَّتْمِ خَطَأٌ أخْلاقِيٌّ..
لَكِنَّ هَذا الخَطَأَ يُمْكِنُ أنْ يَكونَ نَظيفًا.. وَيُمْكِنُ أنْ يَكونَ غَيْرَ نَظيفٍ..
تَسْتَطيعُ- إذا غُلِبْتَ عَلى أمْرِكَ في هَذا الخَطَأ- أنْ تُمارِسَهُ بِرِفْقٍ وتَرَفُّعٍ..
فَإذا اخْتَرْتَ لِلتَّعْبيرِ عَنْ غَضَبِكَ، كَلِماتٍ مُهَذَّبَةً، حَوَّلْتَ خَطَأكَ الَّذي هُوَ الغَضَبُ، إلى خَطَأ نَظِيفٍ مُتَرَفِّعٍ..
أمَّا إذا استَعْمَلْتَ الكَلِماتِ السُّوقِيَّةَ، وَتَناوَلْتَ الآباءَ وَالأمَّهاتِ فَقَدِ ارْتَكَبْتَ خَطَأً هابِطًا.. خَطَأً غَيْرَ نَظيفٍ..
وَعَلى هَذا المِثالِ، نَسْتَطيعُ أنْ نَقيسَ، وَتَسْتَطيعُ أنْ تَتَبَيَّنَ طبيعَةَ الخَطَأ النَّظيفِ، سَواء في آدابِ السُّلوكِ، أوْ في نَشاطِ الغَرائزِ، وَالجِنْسِ..
إنَّ العِنايَةَ بِاخْتِيارِ أخْطائكَ، وَتَهْذيبِ مُسْتَواها، آيَةٌ مِنْ آياتِ النّمُوِّ النَفْسِيِّ القَويمِ؛ لأنَّهُ إذا كانَ «كُلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ»، كَما قالَ رَسولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ) فَإنَّ خِيارَ بَني آدَمَ هُمُ الَّذينَ تَكونُ أخْطاؤهُمْ كَريمَةً نَظيفَةً؛ وَهُمْ بِالتَّالي الَّذينَ لا يُصِرُّونَ عَلى أخْطائهِمْ؛ لأنَّ آيَةَ الخَطَأ النَّظيفِ، أنَّه فَصْدٌ عابِرٌ، وَلَيْسَ «نَزيفًا» مُسْتَمِرًّا!
مَرَّةً أخْرى: لا أقولُ لَكَ: تَجَنَّبِ الخَطَأ؛ لأنَّ هَذِهِ النَّصيحَةَ خَيالِيَّةٌ، بِقَدْرِ ما هِيَ مُتَهافِتَةٌ. إنَّكَ لا تَقولُ لِمَنْ تَخافُ علَيْهِ وَطْأةَ الهَواءِ: احْذَرِ التنَفُّسَ!
** **
- خالد محمد خالد