د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عرف إسحاق نيوتين باكتشاف الجاذبية وتفاحته المشهورة التي سقطت على الأرض، لكن ما قد لايعرفه البعض أن له باعاً طويلاً في مجال وضع الأساس للمعيار المالي في زمانه.
ولد نيوتن عيد الميلاد عام 1642م، لمزارع توفي بعد أن حملت أمه به، وكان ضئيل الجسم خفيف الوزن جداً، تركته أمه عند والديها وتزوجت برجل آخر بعد ثلاث سنوات من ولادته، فعاش طفولته لدى جده وجدته، وقد أثر ذلك التصرف من قبل أمه في شخصيته تأثيراً كبيراً ظل مؤثراً فيه مدة حياته، وكان نبوغه ظاهراً منذ طفولته، وقد طلب مدير المدرسة التي يدرس فيها أن يذهب مباشرة بعد التخرج من المدرسة إلى الجامعة كامبريدج ، لكن أمه لم توافق، وأبقته لديها لكي يساعدها في مزرعة العائلة، وكان نتيجة ذلك أنه تأخر في دخول الجامعة ولم يلتحق بها سوى عام 1661م، وهو بهذا أكبر من أقرانه في الفصل، وقد أدى ذلك إلى شعوره بالوحدة، إضافة إلى أنه بدأ حياته وظروفه المادية في بؤس شديد ، وكان يحصل على قوت يومه من تنظيف غرفة أقرانه الأكثر ثراء، وتفريغ أوعية التبول الخاصة بهم.
لقد أدت نشأته الصعبة إلى توجهه الديني البيروتاني المتزمت المعادي جداً للكاثوليكية، مهووس بمواضيع الخطيئة وشديد التطبيق للتعاليم الدينية، وقد أدى تدينه الشديد مع ملكته العلمية الفطرية إلى تفانيه إلى البحث في الحقائق الطبيعية ليثبت عظمة الخالق، لكن ذلك التدين لم يمنع تأثير الفقر الذي عاشه في طفولته وصباه عن البحث في أوجه جلب المال، فكان يقترض بالربا، لكن بطرق مقيدة، وعندما كان يحتفظ بقليل من المال كان يقرض زملاءه لكن بمقدار لايزيد عن جنيه واحد، وقد أدى ذلك إلى تذمر زملائه منه، وقد اعترف في مذكراته بفعله ذلك، وفي الصف الثاني في مسيرته الجامعية التقى بزميل يشاركه تدينه الشديد، ووحدته وسمو تفكيره، وكان اسمه حون ويكنز، وصادقه، وتشاركا في الأبحاث، وكان جون ويكنز يقوم بالأعمال الكيميائية ذات الروائح الكريهة مثل محاولة تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وبعد عشرين عاماً افترق الرجلان.
بعد تخرجه من الجامعة كرس عبقريته للبحث في أسرار الكون، الذي خلقه الله، وكان يؤمن أن الحقيقة الكلية مؤلفة من عدة أجزاء، وبالإمكان العثور على هذه الأجزاء في كل مكان، وليس فقط في الرياضيات والفيزياء، وإنما أيضاً في الكيمياء وفي الضوء وفي اللاهوت القديم والتنبؤات القديمة، لقد فشل في الوصول إلى تحويل المعادن الأخرى إلى ذهب لكنه كسب كثيراً من المعارف، ترقى نيوتن بسرعة ووصل إلى درجة الأستاذية وعمره لا يتجاوز سبعة و عشرين عاماً، وذلك لأبحاثه في مجال الرياضيات، وكانت محاضراته الأولى اكتشافاً في علم البصريات وكانت من الصعوبة أن أحداً لم يحضر في المحاضرة الثانية، والحقيقة أن عدداً محدوداً من الطلاب كانوا يحضرون له، ولمدة سبعة عشر سنة التي درسها في الجامعة، ولهذا فقد اختصر محاضرته على خمس عشرة دقيقة فقط.
في عام 1685م، تولى الملك جمس الثاني الحكم وكان كاثوليكياً، وطلب من الجامعة قبول رجل الدين فراسيس في الجامعة، دون أن يؤدي القسم أو شروطاً أخرى، ولم يكن عميد الكلية بالقوة الكافية ، فكان صراعاً أدى إلى صراع بين الجامعة ذات المذهب البروتستانتي، وبين الملك، وتم تهديد مركز نيوتن، لكن ما لبث أن مات الملك، وعادت البروتستانتية، وهنا تغيرت حياة نيوتن وتوجهاته فقد اتجه للحياة العامة، وترشح عضواً في البرلمان، ووثق علاقته مع زميله موتاغو الذي أصبح وزيراً للمالية، وأستاذه لوك المستشار في الحكومة، كما أصبحت له علاقات مع النساء وقد كان بعيداً عن هذا النوع من العلاقة ربما بسبب تعامل أمه معه في صباه، وكذلك عزلته.
في عام 1696م، قرر صديقه موتاغو وزير المالية تعينيه في منصب هام في الخزانة لدى البنك المركزي، وهنا قرر الانقطاع عن الانكباب على البحث، والتوجه إلى لندن لعمل الروتين اليومي، وبعد فترة أصبح مسؤولاً عن مؤسسة سك النقود، فاتّخذ شقة رطبة بجوار ضرب النقود، التي يقوم بها ثلاثمائة رجل وعشرات الخيول وكانت رائحة الروث تتصاعد بجانب غرفته لكنه استمر في المراقبة، والعمل الجاد.
بدأ يثقف نفسه في الاقتصاد، وكتب كتباً ومقالات كثيرة، ولم يكن في ذلك الوقت آلات كاتبة ،وكان يستأجر الشباب للكتابة.
لقد كان المعيار الأساسي للنقد في ذلك الوقت هو الفضة، ويتغير سعر الذهب بتغيرها طبقاً للعرض والطلب، ولكن كان الطلب على الفضة من قبل الشرق كبيراً جداً لدرجة أن الناس كانوا يصهرون نقود الفضة لتصديرها.
لقد عمل نيوتن بعض الإجراءات الاقتصادية الخاطئة، ولم يستطع خفض استيراد الذهب فانخفض سعره، وارتفع سعر الفضة، فلم يكن بالضرورة أن قوانين العرض والطلب سوف تلعب دورها بشكل متقن.
لقد أخطأ نيوتن، كما كان ومازال يخطئ بعض الاقتصاديين في التنبؤ بالمستقبل بناء على الماضي، كما كنا ندرسها الطلاب في الجامعة للتوقعات المستقبلية والاتجاه العام. وقد بين نيوتن أن الاقتصاد والمال أصعب بكثير من الرياضيات والفيزياء حتى على عبقري مثله، فهذه علوم بحتة، بينما تلك علوم إنسانية تتداخل فيها عوامل كثيرة لا يمكن ضبطها بشكل دقيق، لكن يمكن تلمس بعض الأدوات القادرة على الاجتهاد للقرب من دفة التوقعات، وأذكر أني كثيراً ما أردد على الطلاب أن ثوابت العوامل الأخرى المفترضة في العرض والطلب هي التي تحرفه عن مساره.
لو أن نيوتن استمر في تجاربه لكانت فائدته للعالم أكثر بكثير من دخوله ميدان الاقتصاد والمال.