دائماً ما نتساءل عن أسباب النجاح الدائم لبعض الدول في حصد الميداليات، بينما تعجز دول أخرى عن تحقيق ذلك. فما هي تلك الأسباب؟
من المعروف أن هناك ثمة عوامل عديدة تساهم في تحقيق التميز والنجاح في المجال الرياضي، إلا أن الطريق إلى الألعاب الأولمبية لدول أسيا يمر دائماً عبر (الأسياد) دورة الألعاب الآسيوية.
فالصين مثلا، من أجل التحضير لدورة ألعاب (بكين 2008) الأولمبية، شاركت في دورة الأسياد لعام 2006 بفريق يضم 647 رياضياً ورياضية بينهم 400 رياضي يشاركون للمرة الأولى في حدث دولي بهذا الحجم، وكان الهدف من المشاركة تهيئة الفرق واختبار الأجهزة الفنية والإدارية لتحقيق التفوق والتربع على العرش الأولمبي وكسر الاحتكار الأمريكي.
أما كوريا الجنوبية فقد استضافت أسياد (سيؤول 1986) لتجهيز فرقها وأجهزتها الرياضية والظهور بشكل لائق ومتقدم خلال استضافتها للألعاب الأولمبية الصيفية 1988 بسيؤول.
وهذا ما تحقق لهذه الدول، وقد استطاعت تحقيق أهدافها الأولمبية من خلال مشاركتها في دورات الألعاب الآسيوية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن لدولة تحقيق أهدافها والنجاح في دورة الألعاب الآسيوية (الآسياد) والمحافظة على النجاح بطريقة مستدامة؟
ونعني بالاستدامة هنا زيادة وعي الممارسين والإدارات بالتأثيرات المحيطة بالرياضة، وتبنّي المبادرات التي ترعى مقومات التنمية والتطوير وهي المجتمع والبيئة والاقتصاد.
من المعروف أن الآسياد هي ثاني أهم وأكبر حدث رياضي أولمبي بعد دورة الألعاب الأولمبية الصيفية، من حيث حجم المشاركين وعدد الرياضات، حيث يتنافس أكثر من 11.000 رياضي في 40 رياضة و462 فعالية، كما شاهدنا مؤخراً في نسخة أسياد (جاكرتا 2018) بإندونيسيا.
وتشارك في دورات الألعاب الآسيوية الدول الـ45 الأعضاء، وتتقدمهم الصين، الدولة الرائدة رياضياً والمسيطرة على صدارة الترتيب في النسخ السابقة بمعدل يصل إلى 300 ميدالية، تليها اليابان وكوريا الجنوبية على التوالي بحوالي 200 ميدالية لكل منهما، وتعد تلك الدول هي الكبرى في الأسياد.
تهيمن الصين على الآسياد بحصة الأسد وفق نهج يحقق لها الفوز في معظم الألعاب والمسابقات. ويعود هذا التفوق إلى خمسة أسباب استراتيجية رئيسة: أولاً؛ اهتمامها بالمدارس الرياضية المتخصصة والتي يصل عددها إلى 3.000 مدرسة، ثانياً؛ البحوث والدراسات المرتبطة بالعلوم وتكنولوجيا الرياضة، ثالثاً؛ برنامج الرعاية الرياضية والحوافز المالية، رابعاً؛ المعسكرات التدريبية المغلقة والبعيدة عن المؤثرات الاجتماعية، وخامساً؛ الطب والعلاج الصيني التقليدي، ويضاف إليها سبب استراتيجي آخر اعترفت به المؤسسة الرياضية الصينية مؤخراً وهو «الاستعانة بالخبرة الأجنبية» وهذا ما ينفي الادعاءات الغربية بأن الرياضة الصينية منغلقة على نفسها؛ حيث استعانت الصين بمجموعة من المستشارين والخبراء في التدريب والبرامج الرياضية، كما ابتعثت العديد من الرياضيين للتدريب في مراكز وأكاديميات رياضية حول العالم، الأمر الذي مكنها من التفوق وتحقيق ميداليات أولمبية في رياضات لم تكن شائعة أو معروفة فيها، والاقتراب من تحقيق مشروعها «119» وهو مبادرة لحصد 119 ميدالية ذهبية في ألعاب بكين.
وهناك دول أخرى أيضاً مثل إيران، كازاخستان، تايلاند وأوزبكستان، متقدمة رياضياً على مستوى الأسياد ودائماً متواجدة وتتنافس بقوة وتتبادل المراكز بين الرابع إلى السابع في الترتيب العام، وحصاد الميداليات بما يصل إلى 80 ميدالية متنوعة. إلا أن جميع هذه الدول تعتمد على برامج تدريبية وخطط مستقبلية متوسطة وطويلة المدى تخضع لإشراف ورعاية حكومية تركز على ألعاب ورياضات معينة تحقق خلالها التفوق، وإن كانت الفنون القتالية وألعاب الدفاع عن النفس هي الاهتمام المشترك بين تلك الدول، مما انعكس إيجاباً على أداء رياضييها وحضورهم على المستوى الأولمبي والدولي.
والحالة الاستثنائية في دورة الألعاب الآسيوية الأخيرة (جاكرتا 2018) كانت القفزة الهائلة في الترتيب للبلد المستضيف من المركز السابع عشر في دورة ألعاب (انشون 2014) بمجموع 20 ميدالية، منها 4 ذهبيات فقط، إلى 98 ميدالية، منها 31 ميدالية ذهبية، مما جعل أندونيسيا تحتل المركز الرابع بكل جدارة وتخلط أوراق الريادة التقليدية.!
ولكن، من يتتبع الرياضة في قارة آسيا يلاحظ مؤشرات وأسباباً أدت لهذا التفوق، وفي مقدمتها الاهتمام الحكومي اللا محدود، وبناء خطة تطوير شاملة للارتقاء بالأداء الرياضي وتحسين المرافق الرياضية والبنية التحتية ومعسكرات التدريب، مما مكنها من استضافة أحداث وفعاليات رياضية كبرى، مثل دورة ألعاب دول جنوب شرق آسيا 2011، ودورة ألعاب التضامن الإسلامي عام 2013، وأيضاً احتضان دورة الألعاب الآسيوية للناشئين 2017 والتي شارك فيها 5.000 رياضي يمثلون 45 دولة.
ولم يقف طموح أندونيسيا الرياضي عند هذا الحد، بل هي الآن في طور وضع خطة استراتيجية طويلة المدى لتحقيق المزيد من الميداليات الذهبية على المستوى الأولمبي، كما أعلن الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو، وهي تخطط لتقديم ملف الترشح لاستضافة الألعاب الأولمبية الصيفية عام 2032.
وكذلك الأمر بالنسبة للهند التي لها تاريخ عريق في الاستضافة أو المشاركة في دورات الألعاب الآسيوية، أو المساهمة في تأسيس المجلس الأولمبي الآسيوي، وتليها تايوان. وتلك دول تعدّ متقدمة رياضياً ولديها قواسم مشتركة واستراتيجيات حديثة لتطوير الأداء والتدريب الرياضي، والانفتاح على التجارب الدولية المهتمة بتطوير الرياضة.
وهنا تتوضح لنا أسباب التفوق والاستدامة لبعض الدول في مجال الرياضة، والتي تتلخص في العمل وفق استراتيجيات ناجحة وتجارب رائدة وطرق خاصة تسلكها لتحقيق أهداف موضوعة وفقاً لنقاط قوة محددة ومعطيات داخلية قد يتم استثمارها لخلق فرص أو لزيادة النجاح على المستويين الآسيوي والأولمبي.
فإذا قمنا بتحليل أداء دول مثل تايلاند أو أوزبكستان، نجد أن تايلاند حققت أكثر من 500 ميدالية في مشاركاتها الآسيوية، وأكثر من 30 ميدالية على مستوى الألعاب الأولمبية، مما يجعلها من دول آسيا المتقدمة رياضياً بالرغم من ضعف إنفاقها على الرياضة، قياساً على وضعها الاقتصادي، وعدم امتلاكها لمنظومة رياضية متقدمة. ولكن من مزايا هذه البلاد وجود 5,700 رياضي محترف في أكثر من 40 رياضة، حيث يتركز نجاح تايلاند في الألعاب الأولمبية في رياضات الملاكمة ورفع الأثقال والتايكواندو، بينما تتميز في ألعاب رياضية أخرى على المستوى الآسيوي مثل (الملاحة الشراعية والسيباك تكراو).
يأتي نجاح الرياضة في تايلاند نتيجة لوجود ثقافة رياضية داعمة، وحب وشعبية للرياضيين، وأكثر من 15 مليون ممارس للرياضة، بالإضافة إلى رياضات محلية يمارسها الملايين وتعتبر تقليداً شعبياً مثل الملاكمة التايلاندية، وهي الرياضة الوطنية الأولى، يليها لعبة «السيباك تكراو» وهي الرياضة الثانية والتي يتجاوز عدد ممارسيها 5 ملايين لاعب.
ويعتمد التطوير الرياضي في تايلاند على استراتيجية رياضية واضحة، يتم تنفيذها حاليًا من خلال الخطة الوطنية السادسة لتطوير الرياضة لضمان استمرارية النجاح.
وفي المقابل نجد التجربة الرياضية الأوزبكية. فقد حصدت أوزبكستان أكثر من 270 ميدالية في (أسياد) آسيا، وأكثر من 30 ميدالية في الألعاب الأولمبية الصيفية، رغم حداثة مشاركاتها كدولة مستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق، وكانت بداية منافستها الدولية في العام 1994. تتميز أوزبكستان بكونها جزءًا من الاتحاد السوفيتي سابقاً والذي كان يتمتع بنظام رياضي متميز ومدرسة تدريبية رائدة. وقد تمكنت من مواصلة التقدم والاستفادة من الماضي الزاهر، والبنية الرياضية الصلبة، إضافة إلى رياضات مثل الملاكمة، المصارعة ورفع الأثقال، وتحقيق أعلى النتائج في مشاركاتها الأولمبية. وقد تمكنت في دورة ألعاب (ريو2016) من التغلب على ملاكمي كوبا، الرائدة في هذا التخصص، وحصد عدد أكبر من الميداليات.
وتركز أوزبكستان على التطوير الرياضي الشامل، من خلال المشاركة الرياضية للشباب في جميع الفعاليات والأحداث وفي مختلف الأعمار والفئات، إضافة إلى تشجيع الرياضات المدرسية والجامعية وحثها على المشاركة الدولية، والتركيز القوي على برامج تدريب المدربين ومراكز التدريب الرياضية المتخصصة في جميع أنحاء البلاد.
وعليه، فإن النجاح الذي حصدته منتخباتنا الوطنية في دورة ألعاب (جاكرتا 2018) مع فوزها بست ميداليات، يمكن أن يكون منطلقاً لتحقيق نتائج أكثر تطورا مستقبلاً، يعبر عن آمال المجتمع وطموح القيادة الرياضية. ومن أجل تطوير الرياضة في المملكة العربية السعودية ومواكبة دول المقدمة في آسيا وتحقيق التفوق قارياً وأولمبياً، لا بد لنا من الانفتاح على التجارب الرياضية الآسيوية الرائدة والناجحة، نظراً للتاريخ الرياضي العريق والحاضر الزاهر، وللمستوى الفني الرياضي المرتفع في القارة إضافة إلى ريادتها العديد من الرياضات والمسابقات عالمياً.
والتوقيت الآن مناسب جداً لصنع التغيير، انطلاقاً من الدعم الحكومي الكبير، وذلك وفقاً لرؤية المملكة 2030 ، والخطط الواسعة والمبادرات الوطنية، إضافة إلى وجود برامج اقتصادية واجتماعية وتنموية مدعومة لتحقيق اقتصاد مزدهر، ومجتمع حيوي ووطن طموح. وأيضا بعد تفضل سيدي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله، بتدشين مشروع «القدية» والذي يعتبر أحد أهم الدواعم للرياضة السعودية ومؤسساتها، ذلك المشروع الذي يحظى برعاية مباشرة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد، في مجالات الرياضة والثقافة والترفيه، والذي يعتبر محركاً للتنمية والتغيير المجتمعي الهادف، ومسرعاً لتطوير عجلة الرياضة في المملكة العربية السعودية.
وهنا لا بد لنا من مواصلة الجهود وتكثيفها والاستفادة من النتائج التي تحققها اللجنة الأولمبية السعودية في هذا المجال والبناء عليها. يجب أن نعمل على استثمار موقعنا الجغرافي والاستفادة المثلى من أفضل التجارب والممارسات الآسيوية، وذلك من أجل تطوير منظومة رياضية متكاملة تهدف إلى رفع مستوى الفرد والنشء من ناحية تنافسية ومهنية، وتعزيز القدرة على تحقيق البطولات من خلال بناء القدرات وتطوير المواهب والارتقاء بالأداء الرياضي والاعتناء بالجوانب الفكرية والعلمية من أجل الوصول إلى مستويات متميزة.
** **
المأمون الشنقيطي - المدير التنفيذي لقطاع الرياضة المتحدث الرسمي بمشروع القدية