د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** في المسار القرائي للفرد ليس أجمل من دهشة الاكتشاف سوى لذة الاستعادة، والفارق أن الاكتشاف الأول يتم عبر توجيه مباشرٍ من أبٍ أو أستاذٍ أو صديق أو مصادفة، أما «الاكتشاف الثاني» فهو جهد ذاتيٌ بإرادةٍ مطلقةٍ، وفي الأعم فإن التفاصيل تحضر هنا كما المجمل في تلك، ولنقل: إن قراءاتنا الأولى تنوعت بين كتب تراثية وأخرى معاصرة، وبين كُتَّابٍ نقليين وعقليين ومحافظين ومجددين، دون أن نصنع لأنفسنا هُويةً ثابتة، ومن نعيه صغيرًا تتبدد معلوماتنا حوله كبيرًا؛ فقد نجد ذلك المسكون بالتقليد «يتحدث» وغيرَه المسافر في منحنيات التغريب ينكفئ، والفاصلة هنا هي الانعتاق من المدار العام نحو المدارات الخاصة ومن الدروب المسالمة إلى الدروب المتمردة، وبينما كان الواحد مستقبِلاً صار محايدًا أو متحكمًا بالإشارات المرسِلة؛ يختار منها ما يشاء ويرفض ما لا يشاء.
** لا يتحقق هذا لجميع من تأطرهم الثقافة بسيميائها الدلالية الفارقة بين التعاريف المجانية التي تُكال دون تقدير والعلامات الحقيقية للمثقف الصانع للاكتشاف والمدهِش بالمخرجات، وهنا يتبدى الميلُ نحو الحقيقة أو الجنوحُ عنها بمقدار ما نستقلُّ ونستدلّ أو نستمع فنتَّبع، وبمعنىً موازٍ: بين من يثبت عند البدايات وبين من يتخطاها نحو تصنيفها وتصفيفها والاكتفاء منها بما يقف في الصف الأول، وينتهي المطاف بنا إلى مسايرةٍ تُغمضُ عقولها أومنافذ تتجاوزُ دروبها، ويعود الاكتشاف إلى نقطة الافتراق بين لذة الدهشة في القراءات التالية ونمطية التكرار في الوقوف عند القراءة الأولى.
(2)
** امتلأ وقت صبانا بالكتب «التصنيفية» التي تقرأ نصوص الرموز الثقافية وشخوصهم بمناظير مؤدلجة مبرمجة أغلقت على بعض الشادين كُوىً واسعة بزعم الحماية من الغزو الفكري، وأُرينا المفكرين وقتها بمناظير مقفلة إلا ثقبًا يسع طرف عين دون مساحة ذهن، وكان الهدف توجيهَ المركب لفتيانٍ لم يبلغوا الحلم أو لم يكادوا، والناتج لمن لم ينعتق أن توقف بهم الزمن عند «ما قيل» أو «من قيل» لهم: الزموهم أو تجنبوهم، وتغلف الشكل العام بعناوين صاخبةٍ كالماسونية والتغريب والانحراف العَقدي والانتماء الحزبي والتجاوزات السلوكية.
** لم تكن عناوينَ عابرةً هادئةً كي يجرؤَ الفتية على تجاهلها فأثَّرت في أجيال أصبحت لديهم قوائمُ سوداء للمؤلفين وللتآليف، وكان الأجدى بقادة المركب أن يكتفوا بالغراس المؤصل في مرحلة الطفولة لما يمسُّ «الأركان» ويدَعُوا الفضاء مفتوحًا للزوايا كي يمر الهواء وليستخدموا -من ثم- مهاراتهم الخاصة للقبول والرفض، ولو فعلوا لما خرج من مدارسهم من يجادل في الحقائق المطلقة ويشكك في المسلمات الثابتة كما يصنع «العقلانيون» بما يمثل اليوم ظاهرةً تستحق الالتفات لا الافتئات، ومراجعة المنهج لا الهروب نحو المخرج، وترشيد العقل كما التثبت من النقل.
(3)
** الزمن يُدير ويُنير.