عبده الأسمري
تجول الأسرار بالإنسان في نواصي النفس وأعماق الروح يجتر حروفها خفية من منصة عقله الباطن ويعزز حمايتها من هجمات الفضول وثورات الشكوك...
الأسرار جزء من كينونة الحياة.. ووجه للتعامل الإنساني.. ونقطة التقاء للتوافق البشري الكائن منذ الأزل.. هي وقائع تحتل «العقل الباطن» وتستظل وراء دفاعات «العقل الظاهر» وتتوارى خلف مقومات المنطق.. وتختفي في غيابت الكتمان..
فكم من أسرار خرجت من عمق الاختفاء لتحضر في حيز الاحتفاء نظير تصفية حسابات خاصة أو تغيير نمط فكري أو خروج اضطراري من عزلة الذاكرة.. وكم من أخرى تجاوزت حواجز الحفظ وقفزت فوق أسوار الاحتياط لتكون حاضرة في متون «العلن» نتيجة خيانة إنسانية أو نكران بشري.
تدخل الأسرار كبند أول على قائمة عقود الصداقة.. وفصل أول في مواثيق العلاقات الإنسانية وعنوان عريض للثقة ومبدأ من مبادئ التعامل..
وفي ظل تحصين المعاملات البشرية تحت ميثاق الأسرار فإن أي انتهاك لبنود هذا الميثاق سيندرج في قائمة الخذلان ويعارض مسلمات الثقة المتبادلة.. الأسرار من التفاصيل التي إما أن تكون وشائج تؤسس لعلاقات متينة وإما شررًا تؤسس لنيران الاختلاف ورماد الافتراق.. لذا فإنها منهجية تعامل قد تأخذ في محتواها قطبية الثبات أو التغير..
تناول دستورنا العظيم القرآن الكريم الأسرار في مواضع كثيرة جميعها شكلت منهجيات نفسية واجتماعية وحقائق قادت إلى نتائج عظيمة ومنها سرية بعض الطاعات بين العبد وربه وكذلك ما تناولته قصص الأنبياء من سرية في بعض محطاتها وتناولت السنة النبوية عشرات المناهج في الأسرار وماهية التعامل المبني على دحر النميمة والبعد عن الغيبة ونهر الساعون بين البشر بالفرقة والاستعانة على تحقيق الأمنيات.. وجميعها تصب في قالب الأسرار وعجائبها في منظومة المعاملات والتعاملات.
تتجاوز الأسرار في مفهومها ونتائجها البشر لتشكل حياة الأمم وسياسة الدول وإستراتيجيات الحروب وتكتيك العلاقات الدولية لذا كان جهاز المخابرات «خزينة الأسرار السياسية والإستراتيجية» الجهاز الأول في صياغة منظومة الدبلوماسية والتعامل والتعاون والدفاع والهجوم وحماية المقدرات.
تعد الأسرار من أهم عجائب النفس الإنسانية لذا كان الله وحده العليم بما يجول في النفس ولو اطلع الناس بخفايا وخبايا أسرار الغير لفسدت الأرض ولعمت الحروب مرابع البشر ودور الناس.
ينظر بعض البشر إلى الأسرار كمفهوم جائل قد يؤول إلى قطب «السوء» أو «التوجس» فيما لو تم التعمق في ماهية الأسرار والدوافع التي حولت القول أو الفعل أو التعامل ليدخل في دائرة «السر» لوجدوا الاختلاف ولوصلوا إلى التدبر بالحكمة العجيبة من نقل بعض الأمور من واجهة «الظاهر» إلى عمق «الباطن» ومن بوابة العلن إلى خزائن الخفية.
الأسرار أحد مفاهيم الحكمة إذا خضعت للتحكم السليم بعيدًا عن الأهواء الشخصية وإذا ما فرق بين سر محتفظ يرسم الإيجابية للآخرين وبين سر يتم إعلانه فيحيق منه السوء لقائله ومستقبله وناقله فردًا أو جماعة..
وفي ظل الحياة وتحت مسلمات الشفافية في بعض الحالات والمقامات يغادر السر منصة «الوقائع» ويصبح حينها «أداة غير قابلة للاختفاء» لذا فإن للأسرار دوافعها ومسبباتها وطرائقها وموجهاتها التي تجعلها أداة للتحكم في توظيف الوئام والسلام والنفع بعيدًا عن الاستئثار بها للإضرار بالنفس أو المضرة بالآخرين.
السر مفهوم يحتاج إلى فهم نفسي وتفهم سلوكي ويجب أن يكون متوائمًا مع المنطلقات الاجتماعية التي تؤطره وتحدد التحكم في اتخاذه كوسيلة للتعامل الإيجابي وحيلة لكبح جماح الغضب ووقف طغيان الشر وردع مسببات التعدي..
مناهجنا التعليمية ومنهجنا الخطابي ونهجنا المنبري يحتاج إلى دقة في إيصال المعلومات الخاصة بالتواصل والوصال وارتباطها بالتعامل بين البشر وفق منطلقات الدين.. لذا من المهم جدًا ربط المفاهيم المختلفة ومنها «الأسرار» التي تعد نقاط التقاء وعوامل مشتركة بين الناس مع رؤية الشرع ومنهجية الحياة وإيجابية التربية ودافعية المعرفة في صياغة السلوكيات النافعة ومواجهة الفشل والجهل الذي يصنع السلبيات تحت وطأة النمطية والتضليل والتقليد..