د. حسن بن فهد الهويمل
اليوم الثلاثاء 1-1-1440هـ يستقبل العالم الإسلاميُّ عامه الهجري الجديد. يودع سنةً، ويستقبل أخرى، وهكذا حيوات الناس، دقائق, وثوانٍ:-
دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائلةٌ له
إنَّ الحَيَاة دَقَائقٌ, وثَوانِي
عام رحَل بمفاجآته، ومصمياته, بأفراحه، وأتراحه. مات فيه أقوام:- حِسًّا، ومَعْنَى. وولد آخرون, ولادة رحم, وولادة تألق. صَحّ فيه مَرْضَى, ومرض أصِحَّاء. سافر مقيمون، وأقام مسافرون. انقشعت غمة فتن بعدما تركت الدمار، والفشل، والقتل، والتشريد, وذهاب الريح, واندلقت أقتاب فتن أشد، وأعتى.
رفعت أقلام العام المنصرم، وجفت صحفه، وتحولت أعمال المحسن, والمسيء إلى كتاب يلقاه كل مكلف منشوراً, في يوم لا ينفع فيه مال, ولا بنون:- إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم .
وفي النفوس منه ذكريات محفورة على الصخر, أو مسطورة على الماء. فالمجروحون لا تنمحي في أعماقهم ذكرياته العلقمية. والمترفون الفرحون تعفو ذكرياتهم الرياح. فعام أولئك يوم, أو بعض يوم. وعام هؤلاء كليل اللديغْ و:-
[مَا أَطْوَلَ اللَّيلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَنَمْ].
إنه من خلال المنظور (القومي) عامُ مَشْأمَةٍ. وعسى أن يكون رديفه عام مَرْحَمَةٍ. الناس أجمعون يستقبلون عاماً جديداً, لا يدرون ما الله فاعل به، وبهم. أيديهم على صدورهم. والمؤمنون يجأرون:- اللهم سلِّم سلِّم :- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ .
كل إنسان يستقبل عامه كما يستقبل أحدنا مولوده. إنه صراط الحياة، يعبره قومٌ كالبرق الخاطف، وآخرون تهوي بهم كلاليبه في مكان سحيق.
دول ينهار أمنها, ويضمحل اقتصادها، وتذهب ريحها، ويكثر أعداؤها، وتتفكك لحمتها، ويسومها كل مفلس.
وأخرى تتحرف لرفعة، وتنحاز لمجد. ينهض اقتصادها، ويتألق إنسانها ، ويعلو شأنها، ويكثر أعوانها، ويقل أعداؤها, ويأمن شعبها, وتقوى لحمتها.
أثرياً يُخْفِقون، ومتَعثِّرون ينهضون، وأصحاء يمرضون، ومرضى يصحون، وخائفون يأمنون، وآمنون يخافون، وخاملون يتألقون، ومتألقون ينطفئون:-
وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس . يعيش الناس جماعات، وأفراداً وسط هذه التقلبات المحسومة، :- وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ .
عام سبقته أعوام، وستلحق به أعوام, حتى يرث الله الأرض, ومن عليها.
الحياة مسرح مكتمل الأهلية، والناس فوقه ممثلون, لا يخرجون عن النص قِيْدَ أَنْمُلَةٍ:- وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ كل فعل، أو ترك مكتوب لصاحبه، أو على صاحبه من قبل أن يبرأ الله الكون, ومن فيه:- مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ .
لقد أثار هذا التدبير المحسوم تساؤل الصحابة. حتى قال قائلهم:- (أفلا نتكل على كتابنا, وندع العمل) فقال رسول الرحمة, والهداية:- (اعْمَلُوا فَكُلُّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له). قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا .
:- فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى . كل نفس ألهمها الله فجورها, وتقواها، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً .
قضاء الله, وقدره سِرُّ الله في خلقه، من خاض فيه بعقله, أورده النار:- وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ، ومن آمن بالقدر خيره، وشره, أنجاه الله من ردغة الخبال، وأذاقه حلاوة الإيمان و:-
(إِذَا الإْيمانُ ضاعَ فَلاَ أَمَانُ).
النفوس قلقة أمارة، والأفكار حائرة مضطربة, فإذا غمرها الإيمان جاءت معه النفس المطمئنة, والأفكار المستنيرة.
عالم الغيب لا توجد له مِجَسَّات، ولا مسابير دنيوية. إنه [عالم آخر] بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
الذين مَوْضعوا [الذات الإلهية] أجهدهم طول السري، وتاهوا في مفازات مضلة. شَبَّهَ قومٌ خالقهم بخلقه، وكَيَّفَهُ آخرون، وعَطَّلَ صفاته فِئام من الناس, ونزهه الناجون:- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ .
والذين تصوروا نعيم الآخرة. شطحت بهم شهوات البطون، وعصفت بهم غرائز الفروج، وأضلتهم أهواء النفوس.
لست أدري ما الذي هوَّم بي في مجاهيل [علم الكلام] و(عالم الغيب) وأنا أتحدث عن عام جديد, بَدَهَنَا, كما بَدَه العيدُ [أبا لطيب المتنبي] وهو نازل بكذابين, ضيفهم عن القرى وعن الترحال محدود فصرخ في وجهه:-
(عِيْدٌ بَأَيَّةِ حَالٍ عدْتَ يَاعِيْدُ
بِمَا مَضَى أَمْ لِأَمْرٍ فِيكَ تَجْدِيدُ
أمَّا الأَحِبَّةُ فالبيداءُ دونَهُمُ
فَلَيْتَ دَوْنَكَ بِيْداً دونها بِيدُ)
ربما تكون الجنح, والمخالفاتُ قائمةً في عالم الغيب, والشهادة, وهي بمجموعها من مضلات الفتن. ومن أوغل في الخطيئة في عالم الغيب فهو كمن أوغل فيها في عوالم السياسة, والأخلاق سواء بسواء.
عام جديد، هو بلا شك امتداد للعام المنصرم, بكل ويلاته. لقد بدأت ساعاته الأولى، وعالمنا العربي لما يزل فريسة سائغة لكافة (اللعب الكبرى) التي أهلكت الحرث, والنسل، ودمرت الشواخص، وأتت البُنى التحتية من قواعدها.
لقد أوْغِرَت فيه الصدر، وفُرِّقَت الكلمة، وشرذمت الأفكار، وقُوِّيت الأقليات، وحُكِّمَتْ في رقاب الأكثرية.
واستحال أي احتمال لِوفاقٍ مرتقب، أو تعايش متوقع. لقد بلغت الأمور حداً يتعذر معه الرجوع، ولما يزل المتنفذون يوغلون في النكاية.
ومهما كان عالمنا فإن حسن الظن بالله منجاة:- وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والله قادر على أن يسخر تلك الجنود المعلومة, والمجهولة في صالح المحسنين.
اللهم اسلك بنا طريق الحق, وقِنَا مُضِلَّات الفِتَنِ، واحفظ (بلاد الحرمين), وأهلها, وقهم السَّيِّئَات، وكن لقادتها، ولا تكن عليهم. وخذ بنواصيهم إلى طريق الرشاد. إنك ولي ذلك, والقادر عليه.