د. جاسر الحربش
الطفل يسجل المستشفى في ذاكرته كمكان لطيف أو مزعج حسب تجربته الأولى، مع وجه الممرضة قبل الدخول إلى الطبيب ومع الحقنة الأولى وكمية الألم الذي سببته. إذا كانت تجربته الأولى مع ممرضة صاحبة ابتسامة حنونة ولم يترتب على الزيارة حقنة مؤلمة، فالأرجح أن ذاكرة الطفل للمستشفى كمكان لطيف أو غير مخيف سوف تسجل في دفتر الذكريات بهذه المواصفات لفترة طويلة من العمر.
القصائد والأهازيج المتغنية بمراتع الطفولة والشباب وتلك الباكية الشاكية منها لا ترتبط سببياً بمكونات التضاريس والطبيعة إيجاباً أو سلباً، وإنما بما حصل للمتغني أو الشاكي هناك. بعد عودة أسراب السائحين نهاية كل صيف إلى الوطن سوف تجد أن أكثرهم كان في نفس البلاد التي زارها في المرات السابقة، بعضهم في أمريكا وبعضهم في دولة بذاتها في أوروبا، والبعض الآخر إما في إندونيسيا أو ماليزيا أو إحدى الدول العربية. عند البحث عن أسباب التكرار من المتوقع أن تسمع التغني بجمال الطبيعة وجودة الفنادق والمطاعم ولطف الناس، وكل يمدح ليلاه، لكن لا تتسرع في تصديق ما يقال وابحث عن أسباب أخرى. بعد البحث والتنقيب سوف تكتشف أن سياحنا الذين قضوا سنوات من الشباب للدراسة في أمريكا صاروا يفضلون قضاء إجازاتهم السنوية مع عوائلهم هناك، والسبب هو ما سجلته الذاكرة من مباهج وعلاقات حياة الشباب في الجامعة والسكن والرحلات، وليس الغابات والأنهار والجبال والغزلان والعصافير. البعض القليل منهم فقط الذي لا يفضل قضاء إجازاته هناك تختزن ذاكرته المعيشية ما يزهده في العودة.
المتعلق بالسياحة السنوية في دولة عربية أو آسيوية أو أوروبية، إما أنه قضى هناك سنوات عمل أو دراسة ناجحة تسجلت في الذاكرة المعيشية، أو أنه في زيارته السياحية الأولى لذلك البلد تعرف على أفراد أو عوائل من نفس الجنسية أو غيرها قضى معهم أوقاتاً سعيدة تسجلت في ذاكرة المكان. لو طلبت من أحد هؤلاء السياح التحدث خمس دقائق عن الطبيعة والمتاحف والآثار في تلك البلد لن يزودك بالكثير، لأن ذاكرته لم تسجل جماليات المكان وإنما اللحظات السعيدة في ذلك المكان.
استيعاب الذاكرة للمكان بهذه الطريقة له أعماق أكثر أهمية وأشد تأثيراً في الفرد والمجتمع، ومن ذلك ما يسمى عالمياً حب الأوطان. المغترب عن دياره واحد من اثنين، إما ذلك الذي يتحرق شوقاً للعودة إلى الديار لأن ذاكرة وطنه كمكان سجلت الوطن في دفتر الذكريات المعيشية السعيدة، وإما أنه ذلك الشخص الآخر الذي يشبه مغترباً عربياً صنف بعد سنة من الاستقرار في بلاد الغربة كتاباً عن وطنه الأصلي بعنوان ساخر وبغيض. على الأرجح أن هذا الرجل قد ارتبط المكان الذي ولد فيه بالشقاء المعيشي في مراحل الطفولة والصبا، ولم يكن بالضرورة ناكراً للجميل.
بهذه الطريقة نستطيع فهم حنين أولئك الشعراء الفطاحلة الذين سكبوا أروع القصائد الغزلية بصحاري الحجاز ونجد، بينما هم في رغد من العيش بين نخيل الرافدين أو بساتين الشام. حب الوطن عندهم سجلته الذاكرة المعيشية تحت عنوان ذاكرة المكان قبل مراحل الاغتراب. كم منزل في الأرض يألفه الفتى، وحنينه أبداً لأول منزل، إن كان المنزل الأول مرتبطاً بذكريات سعيدة.