أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
إن الإسلام دين العدل والوسطية والاعتدال، وقد أمر الإسلام بذلك ووجه إليه، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كان داعية خير وسلام وهدى واعتدال، سار على ذلك في جميع دعوته -صلى الله عليه وسلم- حتى توفاه الله، وسار على ذلك خلفاؤه الراشدون، ومن جاء بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم الذين اقتفوا آثارهم، ونهت الشريعة الإسلامية عن الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، والمجاوزة في الحد والانحلال.
إنّ الحديث عن مبدأ الاعتدال والوسطية في الإسلام من الأمور التي يجب أن يُعتَنى بها وتُعطى حقّها من الاهتمام والبحث والتوجيه؛ لأنّ أغلب المزالق وأكثر الانحرافات نابعٌ من عدم فهم الاعتدال والوسطية في الشريعة الإسلامية.
ويجب على أمّة الإسلام أن تسير على الاعتدال والوسطية كما جاء في الشريعة، وأن تحقِّقه تمامَ التحقيق؛ لتصل إلى ما وصفها الله به من الخيريَّة.
وقد تميَّز هذا الدِّين بالاعتدال والوسطية، وبالتالي تميَّزت أمَّة الاستجابة بأنها أمَّة الوسط. يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، فالإسلام يقدِّم الاعتدال والمنهجَ الوسَط في جميع شئون الدِّين والدُّنيا، كما أنه يحذِّر من المصير إلى أحد الانحرافين: الغلوّ أو الجفاء. يقول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]، وهذه هي الهداية إلى المنهج الوسط.
إنّ معنى الوسطية الوارد في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، هو العدل الخيار، وبهذا المعنى الذي ذكرناه جاء القرآن الكريم والسنّة المطهَّرة، وبه قال علماء التفسير واللغة.
أمَّا الدليل من القرآن الكريم على أنّ المقصود بالوسَط: العدل والخيار، فيتبيَّن من خلال أمرين:
1- أنّ هذا هو المتّسق مع بقيّة الآية، وهي قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، فَعِلّة وصف الأمّة بالوسط هي شهادتُها على الناس، ومعلومٌ أنّ الشهادة لا تُقبَل إلّا إذا كانت عادلة، كما أنها لا تُقبَل إلّا من عدل.
2- أنّ الله سبحانه وتعالى وصف هذه الأمّة بالخيرية فقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، والقرآن يُفسِّر بعضُه بعضًا. فبين وصف الأمَّة بالخيرية وبأنها أمّة الوسط تلازُم، إذ إنّ معنى الوسط هو الخيار.
أمَّا الدليل من السُّنّة: فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام وكتاب التفسير في باب قول الله جلّ وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، رقم (3339، 4487، 7349) عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يُجاء بنوحٍ يومَ القيامة فيُقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم يا ربّ، فتُسأل أمَّتُه: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير! فيقول جلّ وعلا: من شهودُك يا نوح؟ فيقول: محمَّدٌ وأمَّتُه». ثمّ تلا صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: «عدلًا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}».
ولا تتحقّق هذه الشهادة إلّا إذا شهد الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأمّة بأنها قامت بما دُعيت إليه.
فمحمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- وأمَّتُه يشهدون على نبوَّات الأنبياء السابقين عليهم السلام وعلى إبلاغهم للرِّسالة.
فلماذا لا تكون هذه الأمَّة خيرَ الأمم؟.. ولماذا لا تنهض بهذه الخيرية وتؤدِّيها كما أمرها الله -عزّ وجلّ- بها وكما جاء في سُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!، إنه التقصير في حقّ الله -عزّ وجلّ- وفي متابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا المعنى الذي ذكرناه -والذي جاء في القرآن والسُّنّة - هو الذي ذهب إليه علماء التفسير من السَّلف، كابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبير، وقتادة، وبه قال أئمّة التفسير من المتقدِّمين والمتأخِّرين، كابن جرير الطبري، والقرطبي، وابن كثير، والبغوي، والشوكاني، وغيرهم.
كما دلّت اللغة أيضًا على أنّ معنى الوسط: العدل والخيار.. يقول الإمام الطبري: «جاء في اللغة قولهم: فلان وسط في قومه، أي: خيارًا، وذلك إذا أرادوا الرفع من شأنه».
وقال أيضًا: «التأويل أنّ الوسط هو العدل، وهو معنى الخيار، إذ عدول الناس خيارُهم».. ويدلّ على ذلك أيضًا قول أبي بكر -رضي الله عنه- عن المهاجرين في سقيفة بني ساعدة: «هم أوسط الناس دارًا»، يريد بذلك بيان خيريتهم.
ويقول زهير بن أبي سلمى:
هم وسطٌ ترضى الأنام بحُكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي العظائمُ
وبهذا قال الخليل بن أحمد وقُطرب، وغيرهما من علماء اللغة العربية.
وقد يُطلَق الوسط ويراد به الجزء بين طرفين، ولكن لا يعني إطلاق الوسط على هذا المعنى أنه متعارِضٌ مع ما ذكرناه -وهو أنّ الوسط هو العدل-، إذ إنّ الجزء الذي بين طرفين هو في موضع اعتدال بين جانبي الانحراف.
وقد دلّت أيضًا أقوالُ الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم من علماء الأمّة على أنّ المراد بالوسط: العدل والخيار.
يقول حُذَيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: «اتّقوا الله يا معشر القُرَّاء، خُذوا طريقَ من كان قبلَكم، فوالله إن أخذتُم به لقد سبقتُم سبقًا بعيدًا، وإن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتُم ضلالًا بعيدًا».
ويقول عُمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- في كتابٍ كَتَبه إلى أحَد عُمَّاله بعد أن أوصاه بلزوم طريق السَّلف: «… ما دُونَهُم مِن مَقْصَر، وما فوقهم مِن مَحْسَر، لقد قصَّر دونَهم أقوامٌ فجَفَوا، وطمحَ عنهم قومٌ آخَرون فغَلَوا، وهم بين ذلك على هدى مستقيم».
ويقول ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسير قول الله جلّ وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]: «أرى أنّ الله تعالى ذِكرُه إنما وصفهم بالوسط لتوسُّطهم في الدِّين؛ فلا هُم أهلُ غُلُوٍّ فيه غلُوَّ النصارى بالترهُّب وقيلِهِم في عيسى ما قالوا، ولا هم أهلُ تقصيرٍ فيه تقصيرَ اليهود الذي بدّلوا كلامَ الله وقتلوا أنبياءه وحرَّفوا كلام الله، وإنما هم أهلُ توسُّطٍ واعتدال، فوصفهم الله بذلك، إذ أحبُّ الأمورِ إلى الله الوسط».
ويقول ابنُ القيِّم رحمه الله مُقرِّرًا هذا المعنى: «ما أمر اللهُ بأمرٍ إلّا وللشيطان فيه نزغتان: إمَّا إلى تفريطٍ وإضاعة، وإمّا إلى غُلُوٍّ وجفاء، ودينُ الله وسَطٌ بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أنّ الجافي مُفرِّط فيه فكذلك الغالي مُضيِّعٌ؛ هذا بتقصيره عن الحدّ، وهذا بتجاوُزِه الحدَّ».
فهذه أدلةٌ وأقوالٌ -بدأناها بكتاب الله -عزّ وجلّ-، وبسُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، والعلماء من أئمّة التفسير واللغة وغيرهم- تدُلّ دلالةً واضحةً على أنّ هذه الأمّة هي أمّة الاعتدال والوسط والعدل، وأنها هي الخيار بين الأمم، ولذلك يجب عليها أن تنهض بذلك وأن تؤدِّيَ حقَّ هذه الوسطية.
وإن مظاهر الاعتدال والوسطية في الإسلام كثيرةٌ ومتنوِّعة وشاملة، ولكن سنذكُر منها ما يناسب هذا المقال بشيء من الاختصار:
1- اليُسر والسَّماحة في جميع أحكامه:
يقول الله -جلّ وعلا-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «إنّ هذا الدِّين يُسرٌ، ولن يُشادَّ هذا الدِّينَ أحدٌ إلّا غلَبه، فسدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا، واستعينوا بالغَدوة وشيءٍ من الدُّلجة». أخرجه البخاري رقم (39).
وهذا حديثٌ عظيمٌ. يقول ابن حجَر في فتح الباري (1/94): «إنه لا يتعمَّق أحدٌ في الأمور الدِّينية ويتشدَّد إلّا ويعجز وينقطع».
ويقول ابن المُنَيِّر -رحمه الله- عن هذا الحديث أيضًا كما نقله ابن حجر في الموضع السابق: «هذا من دلالة نبوَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنّ الناسَ منذ القديم أدركوا أنّ المتشدِّد دائمًا ينقطع».
وليس معنى هذا أن نترُك الطاعة والمداومة عليها! ولكن نأخذ بالقَدْر الذي لا يجعلُنا ننقطع أو نملّ، ولذلك قال الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-: «إنكم لن تنالوا هذا الدِّين بالمغالبة». أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (4/337).. وغيرها من الأدلة الكثيرة، التي ترد على مريدي التعنت والغلو.
2- رفع الحرج والمشقة:
يقول الله -جلّ وعلا-: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].
يقول أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (3/309): «لو أردنا أن نُعدِّد ما رفعه الله من الحرج عن هذه الأمَّة لطال بنا المقام». وصدق -رحمه الله-.
ومن أمثلة رفع الحرج عن هذه الأمة الإسلامية أنّ توبة من كان قبلَنا كانت بقتل النفس. قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]. أمَّا نحن فتوبتُنا بالاستغفار والندم والإقلاع والعزم على أن لا يعود، ورفع المظالم وإعادة الحقوق.
ولما نزل قول الله -جلّ وعلا-: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، دخل في قلوب الصحابة -رضي الله عنهم- شيءٌ لم يدخله من قبل وتحرَّجوا، فقال لهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «قولوا: سمعنا وأطعنا»، فما هو إلّا أن نزل قول الله -جلّ وعلا-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] قال الله -جلّ وعلا- كما في الحديث القدسيّ الصحيح: «قد فعلتُ». أخرجه مسلم رقم (125، 126). فأيُّ شيءٍ أعظم من رفع هذه المشقّات والحرَج؟.
3- حسن الخلق:
يقول صلى الله عليه وسلم: «إنّما بُعِثتُ لأُتمِّمَ مكارم الأخلاق» أخرجه القضاعي في «مسنده» (2/192)، والبيهقي في «سننه» (10/191). وفي صحيح مسلم رقم (746) عن سعد بن هشام بن عامر رحمه الله قال: سألتُ عائشةَ -رضي الله عنها- عن خُلُق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: «كان خُلُقه القرآن». يقول: فأردتُ أن لا أسألَ عن شيءٍ بعد ذلك.
ولنعلم: أنه كلما زاد الإنسان على غيره في الخلق زاد عليه في الدين. فعلينا - معشر الإخوة - أن نقدِّم هذه الرِّسالة لأبناء مجتمعنا، ونظهر حسن أخلاقنا، ونكون معهم عادلين صابرين متحمِّلين، ولذلك يُقال: إنّ حُسن الخلُق هو: بذل النَّدى، وكفُّ الأذى، وتحمُّل الأذى.
فعلى المسلم أن يتحمَّل الأذى من إخوانه وأن يصبر على جميع ما يلقاه منهم، وأن يكون عونًا لهم على الخير والتحذير من الشرّ. كما أنه يجب علينا أيضًا أن نُقدِّم هذا الدِّين بمبادئه الحقَّة وشريعته السَّمحة إلى غير المسلمين.
أعطوا من أنفسكم خيرًا، كما كان يفعل السَّلف الصالح -رحمهم الله- ذلك، مع العلم والحكمة والبصيرة والدعوة إلى الله وَفق منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
4- البر والإحسان إلى جميع الناس:
فتبرُّ أخاك المسلم وتُحسِن إليه، كما قال جبريل عليه السلام للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «تصلُ من قطعَك، وتُعطي من حرَمك، وتعفو عمَّن ظلمك».
وتتعاون مع الناس على البرّ والتقوى، وتقوم بما أوجبه الله عليك تجاه والديك وأسرتك وأقربائك وجيرانك وإخوانك وزملائك ومجتمعك.
وهذا البرّ والإحسان ليس خاصًّا أيضًا بالمسلمين، وإنما هو يشمل غيرَهم.. فالله في سورة الممتحنة قطعَ المودَّةَ والموالاة عن الكفّار، ولكنه في آخِر السُّورة قال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
يقول ابنُ القيِّم وابن كثير -رحمهما الله- على هذه الآية: إنّ الله يأمُر بالبِرِّ والإحسان إلى غير المسلمين كبارهم وصغارهم ذكورهم وإناثهم، ما لم يكونوا من الذين يُقاتِلون المسلمين.
وهذا الذي ذكرناه طبَّقه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان أعظم الناس إحساناً وبراً صلى الله عليه وسلم، وقد شمل الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحر والعبد.. قال أنسٌ -رضي الله عنه- مبيناً رحمته للأطفال: «ما رأيتُ أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-». أخرجه مسلم رقم (2316).
وكانت الجارية تأخُذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتخرج به خارج المدينة ولا يُعنِّف عليها ولا يأمرُها بترك يده حتى هي تترك. أخرجه البخاري رقم (6072).
وهذا ما يتعلق بالتعامُل مع المسلمين فيما بينهم، أمَّا ما يتعلق بتعامُله -صلى الله عليه وسلم- مع غير المسلمين فكما ثبت في صحيح البخاري رقم (1356) أنه -صلى الله عليه وسلم- علِمَ أنّ غلامًا من اليهود مرِض فزاره ثم دعا هذا الغلامَ للإسلام، فشاور الغُلام أباه فقال أبوه: أطع أبا القاسم. هكذا يفعلُ البِرُّ والإحسان والخلُق الطيِّب مع الناس، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
5- التحذير من الغلو والدعوة إلى الاعتدال:
يقول الله -جلّ وعلا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77]. قال ابن كثير :»وإن كانت هذه الآية نزلت في أهل الكتاب إلّا أنّ المسلمين يدخلون فيها، فهم منهيُّون عن الغلوّ».
والغُلوّ قسمان:
1- غلوٌّ اعتقادي.
2- غلوٌّ عمليّ.
وقد يُقال عنهما:
1- غلوٌّ كلِّي (أي الاعتقادي).
2- غلوٌّ جُزئي (أي العملي).
* فأمَّا الغُلوّ الكلِّي: فهو الذي يتّبع فيه الإنسان هواه ويخرُج به عن الملّة.
والغُلاة يجمعُهم وصفان لا ثالث لهما:
1- أنهم يُكفرون من سواهم.
2- أنهم يَقتُلون أهلَ الإسلام.
وثبت هذا في حديث الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- في الرجُل الذي اعترض على قسمة الرسول -صلى الله عليه وسلم عند توزيع الغنائم في غزوة حنين، وقال: اعدل يا محمد! فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ومن يعدل إذا لم أكن أنا أعدِل؟». فاستأذن أحدُ الصحابة الرسولَ في ضرب عُنُقه فنهاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: «يخرُج من ضئضئ هذا قومٌ تحقِرون صلاتَكم مع صلاتهم وصيامَكم مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يُجاوزُ حناجرَهم، يمرُقون من الإسلام كما يمرُق السَّهم من الرَّمِيَّة».
وفي رواية: «يقتُلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان». وفي رواية أخرى: «لئن لقيتُهم لأقتلنَّهم قتلَ عاد». أخرجه البخاري رقم (3344)، ومسلم رقم (1064).
* وأمَّا الغلوّ الجزئي: فهو يحدُث في وقائع وحوادث لأشخاص بأعيانهم.
ومن أمثلة ذلك: الرَّهط الثلاثة الذين جاؤوا إلى بيوت النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عبادته، فلما أُخبِروا بها كأنهم تقالُّوها، وقالوا: أين نحن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد غُفِر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر؟ فلمَّا بلغ الرَّسولَ -صلى الله عليه وسلم- ذلك خرج عليهم وقال: «أمَا والله إنِّي لأخشاكُم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصومُ وأُفطِر، وأُصلِّي وأنام، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس منِّي». أخرجه البخاري رقم (5063)، ومسلم نحوه رقم (1401).
فإذًا؛ الغُلُوّ منهيٌّ عنه شرعًا وهو مذموم، ولكنه يختلف باختلاف أحواله؛ فإن كان غلوًّا اعتقاديًّا فهو خطر داهم وشرٌّ مستطير، وقد عانت الأمَّة الإسلامية معاناةً شديدة منذ النصف الأوَّل من القرن الأوَّل الهجريّ، وما زالت تُعاني منه.
وليس هؤلاء الغُلاة هم العسكر الذين كانوا في ذلك الزمن الأول، في زمن عثمان وعلي -رضي الله عنهما-، وإنما هم موجودون كلما وُجِد هذا الفِكر والتوجُّه والمنهج. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه عن الخوارج في مجموع الفتاوى (28/495-496): «وهذه العلامة التي ذكرها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هي علامةُ أوَّل من يخرُج منهم، ليسوا مخصوصين بأولئك القوم، فإنه قد أخبر في غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجَّال، وقد اتّفق المسلمون على أنّ الخوارج ليسوا مختصِّين بذلك العسكر، وأيضًا فالصِّفات التي وصفها تعُمُّ غيرَ ذلك العسكر، ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقًا».
ولكن على العلماء وطُلّاب العلم أن يُبادِروا بمعالجة هذا الداء، وبيان ما يلزم بصراحة ووُضوح حتى لا يستشري الشرُّ وتعمَّ الفتنة فلا تُدرَك ولا يعلم مداها إلّا الله -عزّ وجلّ-.
6- تحقيق المصالح والوفاء بالحاجات:
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته مرجع المسلمين في تدبير شئونهم العامة: من تشريع وقضاء وتنفيذ، وكان مرجعه في هذا التدبير ما ينزل عليه من ربه، وما يهديه إليه اجتهاده ونظره في المصالح، وما يشير به أولو الرأي من صحابته فيما ليس فيه تنزيل، وكان التدبير بهذه المصادر يتسع لحاجات الأمة ويكفل تحقيق مصالحها.
وقد ترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أمته هاديين لا يضل من اهتدى بهما في تدبير شئونه وهما: كتاب الله وسنَّته -صلى الله عليه وسلم-، وأقام مناراً ثالثاً يستضاء به -فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة- وهو: الاجتهاد الذي مهد طريقه، ودعا إليه بقوله، وعمله، وإقراره، ذلك لأنه -صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يبلغ الأحكام مقرونة بعللها والمصالح التي تقتضيها، وفي هذا إيذان بارتباط الأحكام بالمصالح، ولفت إلى أن الغاية إنما هي جلب المنافع ودرء المفاسد.
فمن أمثلة ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها: «إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 337)، برقم (11931)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الهرة وطهارة سؤرها: «إنها من الطوافين عليكم والطوافات»، أخرجه أبو داود في سننه برقم (75) وغيره. فهذا ونظائره في الكتاب والسنَّة مما فيه نص على علة الحكم أو إشارة إليها كله تمهيداً للسبيل إلى الاجتهاد؛ لأنه بهذه العلل يتوصل إلى إلحاق الأشباه بالأشباه، وتعرف الحكم في كل موضع لا نص فيه.
هذا كله وكثير مثله بث في نفوس المسلمين: أنّ غاية الشرع إنما هي المصلحة، وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله سبحانه، وأنار لهم أن السبيل إلى تحقيق المصالح، حيث لا نص إنما هو الاجتهاد، وقد ظهرت هذه الروح فيما سلكه الخلفاء الراشدون بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تدبير الشئون العامة للدولة، فكانوا يهتدون في نظمهم وسائر تصرفاتهم بما شرع الله في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن حدث لهم ما ليس له حكم في كتاب ولا سنَّة؛ اجتهدوا رأيهم، واتبعوا ما أدى إليه اجتهادهم مما رأوا فيه مصلحة الأمة ولا يخالف روح الدين.
7- الاجتماع والاتفاق والائتلاف:
يقول الله تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، ويقول سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، ويقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني: الأهواء - كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة». أخرجه أبو داود، والترمذي وابن ماجه وغيرهم.
أسأل الله -جلّ وعلا- أن يحفظ البلاد والعباد، وأن يوفق ولي أمرنا وإمامنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظهما الله-، وأن يجزيهما خير الجزاء على جهودهما في خدمة الإسلام والمسلمين، وفي خدمة الحرمين الشريفين.. وأن يكتب لهما الأجر والمثوبة إنه سميع مجيب.