هدى مستور
لم يشغل هذا السؤال عقول الفلاسفة والمناطقة والحكماء فحسب، بل هو سؤال قابع داخل النفس، يترصد الفرصة ليظهر، في حين أنه كامن لحين يفرغ الإنسان من مشاغله المتعاقبة في إثر بعض، أو ضغوطه التي لا تكاد تنتهي! هو يخرج من مخبئه إذا تهيأت له الأسباب!
هو ليس سؤالاً أكاديميًّا، ينتظر منك إجابة محفوظة في ذاكرتك؛ هو سؤال وجودي، ينتظر منك حياة كاملة.
منذ أن يلتحق الطفل بالمدرسة أو قبلها بقليل تتدخل الثقافة الاجتماعية إلى حد كبير في برمجته، ورسم معالم هويته.. وعلى الرغم من مروره بكثير من التغيرات الجسدية والنفسية، وتعرُّضه لكثير من التقلبات الاجتماعية إلى أن يبلغ منتصف العمر، إلا أنه يعيش متخمًا بتصديق الوهم الكبير.. فاسمه ونسبه وشهاداته ووظيفته وممتلكاته وأبناؤه.. كل هؤلاء شركاء يتنازعون فيما بينهم في رسم حدود أناته.
ولكم أن تتخيلوا غور الألم الذي يصاب به مَن يقف على شفا تجربة الموت، أو حتى قبل ذلك وهو لا يزال يعارك الحياة؛ فانطفأ بريق الاسم، أو خسر ماله، أو فقد وظيفته، أو مات أحد أبنائه.. هو حينئذ قد انتُزعت منه الأنا خاصته، واستوى في حسه الموت والحياة.
من أنا؟ سؤال يفتح لك الستارة على حقيقة ذاتك؛ ليتسنى لك الكشف عن أناتك الحقيقية. وهو على سهولته إلا أنه من أكثر الأسئلة تحديًا وغموضًا! وذلك لأن طرحه يغضب أناتك في مواجهة كاشفة معها.
هي تريد منك أن تبقى رهينًا لقبضتها، هي مَن تحدد أهدافك ورؤيتك للحياة، وهي مَن تتنقل بك بمهارة خادعة وبخفة متناقضة بين مشاعر الخوف والأمن والإحباط والنشوة، وبين اللذة والألم..
هذا السؤال مكروه لدى الكثيرين؛ لأنه يأخذهم في رحلة غامضة للتعامل مع اللامرئي في داخل النفس، في حين أن الناس قد اعتادت على التعامل مع العوالم المرئية والواضحة.
تجارب الحياة الموجعة هي إحدى الهزات العنيفة التي تعيدك لذاتك، لكنها لا تفيد طالما أن الإنسان بعناد وجهالة منه يوجِّه اللائمة خارجًا، وكان الأولى أن يسمح لذاته لتتلقى الإجابة من نفسه.
الاسم رمز يميزك عن غيرك، ينخلع منك بمجرد انفصال الروح عن الصورة! ومعه تتجرد من كل مكتسباتك وممتلكاتك. وكذرات ملح تذوب، وكلٌّ يعود لأصل مادته.
لا أسعى لإقناعك بأن سعيك خلف أهدافك في الحياة كلها مجرد حالات عارضة، تخلعها على نفسك، وتصبغ بها هويتك، وليست من صميم جوهرك، ولا تتصل بذاتك.. فهذا شأنك وحدك، وأناتك العليا هي الحكم.
إذ يكفي أن تقرأ ما يمليه عليك شعورك، وهي لغة روحك الوحيدة، في أثناء سعيك لإكمال صورة أناتك، أهو شعور بالسلام والارتياح والحب والشغف، أم أنه شعور مركب من النفور والخوف، وثقل ظلامي جاثم على القلب..
وبما أن الروح علوية نورانية فكل قيمة من جنسها تحدوك في سعيك، وهي من يعيدك لأصل تكوينك، وهي من تشاركك كحارس أمن خلال رحلتك الدنيوية، وكذخيرة أنس خلال رحلتك الأخروية.
بينما كل سعي تدفعك إليه أناتك الزائفة هو مشبع بنوايا الجشع والسيطرة والرغبة بالاستحواذ وإرضاء الغرور، وإن زعمت جهلاً أو كذبًا إنما يحدوك إليه قيمة الدين أو إرضاء الطموح أو سد الاحتياج، أو حتى حماية الوطن وحراسة الفضيلة..
الله تعالى لم يترك الإنسان حائرًا يطيل التخبط، ويطرق الدروب، ويكثر من الترحال، لعله يعثر على ضالته في الإجابة الشافية عن السؤال المحير القديم: مَن أكون؟
ففي ثاني سورة في الترتيب القرآني، وتحديدًا في الآية الـ30 - وللترتيب حكمة - جاءت الإجابة تتضمن التعريف بالإنسان من خلال الماهية والوظيفة معًا {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}. وليحظى بالأهلية فقد مكَّنه من الأدوات بشرف قابليته للتعلم {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}، ووهبه ما يشعر به من تقدير ذاتي كامن في داخله {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ}؛ وذلك ليطرد عنه الشعور بالهوان والذل؛ إذ إن ذلك هو ما يغذي الأنا الزائفة، ويمكِّنها من السيطرة؛ فينخلع الإنسان من هويته الحقيقية طوال رحلته الدنيوية.
وأخيرًا مع تدريب أولادكم على كتابة الأحرف الأولى من أسمائهم علموهم أن تكون لحياتهم معنى وقيمة، وذلك بأن تكون حياتهم كلها متفقة مع هدف الحياة منهم.