عبدالعزيز السماري
إذا أردت أن تفهم الظاهر والباطن في السياسة، فعليك متابعة ما يحدث في البصرة، فقد انتفض أهلها، وأحرقوا أوراق المشروع الإيراني في البلد العربي العريق، برغم من بذل إيران للمبالغ الطائلة من أجل تدجين الشعب العراقي في التبعية الفارسية من خلال العواطف الطائفية والأساطير الدينية في تاريخ الصراع المذهبي.
لم يحتج أهل البصرة إلى شيخ أو معمم ليخبرهم أدبيات الخروج على الهيمنة الإيرانية، لكن أخرجتهم الحالة المعيشية عن طورهم، وكما قيل في المثل الشعبي «ما دون الحلق إلا اليدين»، فالفساد من خلال الأخطبوط الإيراني يقتل العراقيين جوعاً وذلاً، ولم يبق لديهم إلا حق الدفاع عن حياتهم أمام غول الفساد والفقر والهلاك.
التأدلج والتحزب يتغذى على الحالة الاقتصادية، ودائما ما ينتظر أصحاب المشاريع السياسية على أبواب المجتمع ينتظرون انهيار مستويات المعيشة، ومن هناك تبدأ مرحلة تسويق مشاريعهم المضادة في السياسة، ولو قارنا مستويات حدة الخطاب السياسي في الدول الغربية الديموقراطية فستجدها مقترنة تماماً بالحالة الاقتصادية ومستويات البطالة..
فعندما ترتفع مستويات المعيشة وتتحسن نسب البطالة تنخفض حدة الخطاب السياسي في الانتخابات السياسية، وهو ما يعزز تلك العلاقة التي دوماً ما كانت عقبة كبرى في الاستقرار السياسي في التاريخ العربي، وما يجري في العراق يعزز تلك العلاقة، فالحالة الاقتصادية والفساد والفقر أخرجت الناس من استقرارهم وطبعهم المسالم.
ما تبشر به إيران لجيرانها هو نشر مذهبها المتطرف على أنه مذهب السعادة والرضا الرباني في الحياة الدنيا، بينما الهدف الباطن من اعتناقه والاندماج فيه هو التبعية الفارسية، لكن العقل المتطرف لا يرى تلك الحقيقة، وتغيب عنه الحقيقة الناصعة أن الناس في حياتهم الدنيا يشقون من أجل استيفاء احتياجاتهم من تعليم وصحة ومعيشة وعمل، وأن العلاقة بالله عز وجل لا تحتاج إلى وسيط أو معمم أو شيخ طريقة.
التطور هو عملية كاملة ومستمرة في حياة الشعوب، وفي مختلف جوانب المجتمع المدني، وكذلك السياسي، وبناء عليه تتغير القاعدة والبنية الفوقية، وتشير التجربة الثورية إلى أن هذه التغييرات متفاوتة دائمًا: فالتنمية غير المتساوية واستخدام الأيدولوجيا والطائفة إلى السيطرة والهيمنة على الثروات يؤدي إلى يقظة وفوضى غير مسالمة كما يحدث في البصرة.
أصبح الإنسان العربي في مرحلة وعي أكثر، فالدين أسمى وأنقى من أن يكون وسيطًا لسرقة المال كما نشاهده في الثراء الفاحش للمرجيعات والمشيخات الدينية في هذا العصر، وحدث ذلك بسبب دخولهم المعترك السياسي وعقد الصفقات السرية مع السياسيين الفاسدين في تلك الدول.
ما يجري في العراق قد يكون بؤرة لثورة دموية تعيد التاريخ من جديد إلى ثورة فرنسا ضد سيطرة الكنيسة على الحياة في المجتمع الفرنسي في ذلك الزمن، وعلينا مراقبة الوضع، فقد يشتعل الوضع في مختلف أنحاء العراق ما لم تحدث يقظة سياسية في القيادة، يتم من خلالها عزل التأثير الفارسي، وإخلاء الأجواء من الفساد المالي والطائفية والمحاصصة، ثم منع المرجيعات الدينية من التدخل في عالم السياسة، والأهم من ذلك أن تُمنع الأحزاب الدينية من الدخول في الانتخابات.
الطائفية والخطاب الديني المسيس، كانا في كثير من الأحيان أدوات للهيمنة والفساد، وقد يماثل غيره من الخطابات المؤدلجة بالقومية أو الشوفونية الوطنية، وهو أشد خطورة لما فيه من استخدام غير بريء للخطاب الرباني. وقد استخدم في التاريخ لفرض الهيمنة وتبرير الفظائع والقتل والدموية، وما يجري في العراق الآن هو بداية لتاريخ جديد ما لم تتدارك القوى السياسية خطورة التمادي في الفساد سواء باسم الطائفة، أو التبعية للغزاة..