تهاني فهد الخريجي
يعاني بعض الشباب من نقص في الوعي الذاتي لدرجة قد تؤثر على معرفته بما يريده بالفعل, وتمتد إلى فقد مهارة اتخاذ قرارات مصيرية صحيحة, كاختيار تخصص يناسب ميوله في الجامعة، أو تحديد مسار وظيفي معين, إلى الفشل في تكوين علاقات اجتماعية صحية.
إن بناء الوعي النفسي والاجتماعي للناشئين يعتبر من المطالب الرئيسية في هرم الاحتياجات لماسلو، وفي تدرج تلك الاحتياجات تأتي مرحلة في المنتصف بحاجة إلى الإشباع, تلك المرحلة في منطقة وسطى بين الاحتياجات الجسدية والحاجة إلى الأمان في قاعدة الهرم (منطقة البقاء عند آر أي جي), وقبل قمته الذي يركز على الابتكار وحل المشكلات (منطقة النمو عند آر أي جي). وهي المنطقة التي سلط عليها الضوء البروفيسور Martinelle في إحدى محاضرات كلية التربية في جامعة بوستن ضمن برنامج التطوير المهني والنوعي خبرات؛ مخبراً أن تلك المنطقة في وسط هرم ماسلو غالبًا ما تسمى القطعة الناقصة (Missing piece) في بناء المناهج. فتركز المناهج على أعلى الهرم لنمو متعلم يبتكر ويبدع ويحل المشكلات ويدرس الحقائق، بينما تتولى الأسرة تحقيق مطالب البقاء في قاعدة الهرم عند أغلب الثقافات. في حين تبقى تلبية إشباع الاحتياجات النفسية الاجتماعية في التعامل بين الناس, والانتماء للمجموعة في الارتباط الناجح مع الآخرين؛ هي القطعة الناقصة في بناء المنهج المقصود.
ذلك أن كثيراً من تلك الغايات تكون ضمنية في العملية التعليمية، ويمكن القول إنه يمكن تحقيقها في المنهج الخفي وغير المقصود عند تطبيق الطرق المستخدمة التفاعلية بين المتعلمين, فأي منهج يتكون من أربعة أركان رئيسية قد يتفرع منها غيرها في بعض نظريات بناء المنهج؛ هي الأهداف، المحتوى, الطرق المستخدمة، والتقويم. والقول إن الطرق المستخدمة فقط قد تشبع تلك الحاجات وتخدم تلك المنطقة بطريقة ضمنية في المنهج الخفي أو من خلال طرق التدريس في استخدام الأنشطة والتعلم التعاوني على سبيل المثال هو قول صحيح لكنه بالطبع غير كاف. بل يجب أن تشبع تلك الاحتياجات في بناء جميع أركان المنهج الأخرى من أهداف مقصودة, ومحتوى واضح.
إن بناء التفاعل الاجتماعي الجيد بين المتعلمين, يقضي على مظاهر السلوك غير المرغوب فيها من تنمر, عنصرية, عدوانية أو حتى خلافات ثقافية طبقية وصراعات مادية عند انتشار حمى المدنية؛ التي يمكن التدريب على حلها والتعامل معها عن طريق تلك المناهج في مهارات حل المشكلات السلوكية بطريقة إيجابية وتقبل الآخر واحترام الاختلاف, ركوناً إلى القيم الرئيسية لبناء الإنسان الفعال والمواطن الصالح. وهو ما يشبع تلك المنطقة الناقصة في هرم الاحتياجات عند ماسلو. يمكن للمتعلم فيها التدرج صعوداً من قاعدة الهرم والحاجات الفسيولوجية إلى قمة الهرم في الابتكار والإبداع مروراً -وليس قفزاً- بتوازن تفاعلي اجتماعي جيد.
من هذا المنطلق تم إنشاء مناهج خاصة يتم تفعيلها عن طريق مواد تعليمية أقرب إلى أن تكون تدريبية في مدارس أمريكا/ بوستن لتنمية المهارات النفسية والاجتماعية بما يشبع احتياجات المنطقة الوسطى من هرم ماسلو. منهج تم بناؤه في المرحلة الابتدائية باسم الحلقة المفتوحة (Open Circle) وعلى غراره منهج الخطوة الثانية (Second Step) للمرحلة المتوسطة الذي يمتد للمرحلة الثانوية. تهدف تلك المناهج لبناء شخصية المتعلم الاجتماعية مروراً بخطوات خمس: تنطلق من أول مرحلة بالوعي الذاتي, فالإدارة الذاتية, ثم الوعي الاجتماعي, يتبعه بناء العلاقات, وأخيراً ينتهي باتخاذ القرارات.
كانت أول بدايات تدريس منهج الحلقة المفتوحة (Open Circle) منذ عام 2000 بصورة شيقة للطلاب ونمط تفاعلي يشرح فيه المتعلم ماذا حدث, ويكتشف موضع الخطأ, ثم يقدم حلولاً أو يبتكر حواراً مناسباً يضع فيه اقتراحات وقائية, ضمن موضوعات تهتم بالتنمية الذاتية على غرار: نكن معاً, الطرق التي نتشابه ونختلف بها عن بعضنا, كيف تتحكم بغضبك, مهارات الاستماع للآخرين, كيف تصف بدقة ما تشعر به, احترام الآخرين, التعاون وغيرها من الموضوعات في صميم علاقات المتعلمين مع بعضهم البعض كأشخاص مسؤولين, بطرق إجرائية عملية, تدريجية, تدريبية. ومن ثم في عام 2014 جاءت النسخة الرقمية لذلك المنهج في مدارس أمريكا تحت مسمى الخطوة الثانية (Second Step) للمراحل الدراسية المتقدمة.
تلك المناهج شديدة الشبه بمادة (المهارات الحياتية) في مناهج المقررات بالمرحلة الثانوية في مدراسنا, ولكننا بحاجة إلى منهج أكثر تركيزاً على القطعة الناقصة في هرم ماسلو, تقضي على بعض المظاهر النفسية والاجتماعية المنتشرة بين المتعلمين, كوجود الطالب المتفوق دراسياً والفاشل اجتماعياً، أو العالم غير المكترث بالقيم الحياتية, أو المخترع الذي لا يبالي بتأثير ابتكاره على أخيه الإنسان, لأنها مناهج تستثمر الإنسان كي تستطيع أن تستثمر العلم من خلاله.
هي في الحقيقة مناهج تساعدهم على تكوين علاقات اجتماعية ناجحة يلفها الانتماء, تحلق بجناحي العلم المادي والإنساني معاً بطريقة أشد انسجاماً وأكثر نجاحاً. فيها تنمية للذات وتقديراً للآخر, يصنف الفرد فيها نفسه بناء على وعي ذاتي صحيح منذ البداية, فيكتشف طباعه ويفهم دوافع غيره, ويستطيع أن يحدد أهدافه المستقبلية, ليبدع ويبتكر عند قمة الهرم بعد أن يتجاوز تلك المنطقة الناقصة في المنتصف وقد أشبع احتياجاتها بكل نجاح.