د. عيد بن مسعود الجهني
دمشق عاصمة الدولة الأموية التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه في الفترة ما بين 41 - 132هـ، وقد كانت خير دولة وأعزها في الإسلام بعد الخلافة الراشدة، وأكثرها فتوحًا؛ إذ امتدت فتوحاتها من الصين شرقًا إلى الأندلس وفرنسا غربًا، ومن بحر قزوين في الشمال إلى المحيط الهندي في الجنوب، وكادت تفتح أوروبا بأكملها.
بلاد الشام التي عرفت هذا التاريخ العظيم، وعرفت أسماء قادة، سطر التاريخ أسماءهم بحروف من ذهب، كموسى بن نصير، وطارق بن زياد، عقبة بن نافع، والمهلب بن أبي صفرة، وقتيبة بن مسلم.. وغيرهم؛ لتبلغ الدولة الأموية الثريا في الفتوحات والقوة والتطور، الذي بدأت مسيرته العطرة من على أرض بلاد الشام لنشر دين الله الخالد، الدين الوسط البعيد عن الغلو والتطرف والإرهاب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (143 البقرة).
هذه البلاد بعد هذا التاريخ الناصع تولى أمرها أسرة أصلها فارسي، وتحديدًا من أرض أصفهان، بل إن الهالك (حافظ علي سليمان الوحش) الذي استبدل اسمه الرئيس عبد الناصر - رحمه الله - (بالأسد) بدلاً من الوحش، وليته لم يفعل، لكن قدر الله ما شاء فعل، منذ أن تولت هذه الأسرة مقاليد الحكم في الشام أفسدت كل شيء؛ باعت الجولان لأهلها وقرابتها الصهاينة، وشهد بذلك زميلهم المجرم نتنياهو الذي يدعم هذه الأسرة التي لم تطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل منذ أربعة عقود بشهادة الصهيوني نتنياهو نفسه.
اليوم، وبعد مرور ثماني سنوات عجاف على الثورة السورية الغاضبة ضد هذا النظام العلوي الشيعي الذي لا يمثل سوى 10 في المئة من السكان (أهل السنة والجماعة)، يبدو أن المجتمع الدولي قد قرر إدارة ظهره لهذا الشعب الذي قُتل منه على يد النظام الفاشي والروسي والإيرانيين وحزب الشيطان أكثر من (600) ألف قتيل، فضلاً عن مئات الآلاف من الجرحى والمعاقين وعشرات الآلاف في غياهب السجون.
لذا المجتمع الدولي أغمض عينيه وسد أذنيه؛ لأن (ماما أمريكا) نفضت يدها من قضية أهل الشام، والاجتماع السري بين الرئيس بوتين وترامب في هلسنكي خرج من رحمه هذا التوجه؛ فاتفقت الآراء الإسرائيلية والأمريكية والروسية على فناء الشعب السوري، وتقديمه هدية للنظام وطهران برعاية روسية ومباركة أمريكية.
هنا يبرز دور تقاسم النفوذ. بالأمس فازت أمريكا في زمن ضعف روسيا في كل من أفغانستان والغنيمة الكبرى (العراق)، وامتد النفوذ إلى ليبيا؛ لتمزق إربًا إربًا على نمط ما تم بالعراق. فدولتان، هما روسيا وأمريكا الفائزتان بنسبة 90 في المئة من القوة النووية الدولية، أصبح لهما القدح المعلى في احتلال الدول، بل تقسيمها.. وتقسيم المجزأ.
هذا بعد أن تمتعت أمريكا بلقب القطب الأوحد منذ عام 1989، عام سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي. وعند ذلك التاريخ نقول إن أمريكا بذكائها (القوة والاستراتيجية العسكرية والاقتصادية) أضاعت فرصة تاريخية؛ فقد كان بإمكانها تحجيم روسيا، لكنها أضاعت تلك الفرصة الذهبية، وبدأ السيد بوتين إصلاح بيته؛ ليصبح قوة ذات شأن، يبرزها على أرض الشام؛ ليفوز بها، ويسكت السيد ترامب راضيًا بقوة جديدة، تناطح قوة بلاده.
وإذا كانت أمريكا احتل بوش الابن فيها بلاد الرافدين بقوته المعراة خلال أيام، ونصب (بريمر) حاكمًا أمريكيًّا على أهل العراق، فإن بوتين بعد ثلاثة أعوام من القتل والتدمير بقوته الحمقاء، ومعه الفرس، أصبح الحاكم الفعلي على أهل الشام، الذين هاجر نصفهم خارج البلاد طلبًا للنجاة من الطغاة، إلى الأردن ولبنان وتركيا وبلاد الغرب.. ليكتب التاريخ الحديث تهجير شعب من مدنه وقراه إلى الداخل والخارج هروبًا من بلودان ومضايا والزبداني والغوطة ودير الزور وحمص وحلب وحماة وغيرها؛ ليجتمع ثلاثة ملايين منهم في إدلب ضمن صفقات أدارها كل من الفرس وروسيا وتركيا، وبمباركة أمريكية.
مصير هؤلاء الذين تجمعوا في إدلب، الذين يبلغ تعدادهم (3) ملايين نسمة، لا يعلمه إلا الله؛ فكل المؤشرات تدل على أن قوى الشر تعاهدت على فناء أصحاب الأرض الأصليين. وقد تشهد إدلب محرقة جماعية، أبطالها روحاني وبوتين ودمية الشام ومعه حزب الشيطان. وقد تذهب وعود السيد أردوغان بحمايتهم أدراج الرياح في ظل سكوت أمريكي مهيب.. كل ما يهمه أمن إسرائيل الذي يعتبره ترامب أنه قد تحقق عندما اتفق الجميع على إبعاد الفرس عن نقاط التماس مع إسرائيل بـ (85) كيلومترًا.
نحن نشهد مؤامرة دولية تحاك ضد شعب يبحث عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان المشروعة؛ فاتحد الجميع ضده قتلاً وتدميرًا وتشريدًا في زمن الأمم المتحدة ومجلس أمنها الذي يديره الدب الروسي والغول الأمريكي، ويبقى أعضاء المجلس الدائمون وغير الدائمين في خانة (الصفر).
المؤامرة الكبرى واضحة لكل ذي بصيرة.. يتحدثون عن حل سياسي، وبعد ماذا؟ بعد أن احتضنت بلاد الشام أكثر من مليونَيْن من الشيعة، جاؤوا من كل أصقاع الأرض، ومُنحوا الجنسية السورية. وبعد أن صدر القانون سيئ السمعة ذو الرقم (10) المشابه تمامًا لقوانين إسرائيل بشأن الغائبين. ولا غرابة؛ فالوحش هو صديق حميم لنتنياهو، وبذا فإن القانون رقم (10) ما هو إلا ذريعة قانونية لإحلال الشيعة القادمين محل أهل السنة والجماعة في العقارات التي هي أصلاً أملاك لهم. وهكذا تؤخذ الحقوق في زمن (القوة) من أصحابها؛ لتقدَّم هدية لمن جاؤوا من كل حدب وصوب.
هذه ما هي إلا تنظيمات مفبركة استعدادًا لمشروع يحضر في السر والعلن لإجراء انتخابات ترجح كفة المحتلين على كفة أهل الثورة الأصليين الذين تشتتوا مهجرين بعيدًا عن أرضهم لمصلحة الطغاة والمحتلين.
وإذا كان الأمر هكذا، ويعتقد الغزاة أن بلاد الشام ستنعم بالأمن والاستقرار في ظل الاحتلال، فإن هذا تصور بعيد المنال؛ فقضية الشام قد يكون مصيرها مع مرور الزمن كالقضية الفلسطينية؛ فالاحتلال الإسرائيلي لا يختلف عن زميله في الشام مع الخلاف في عدد المحتلين، في فلسطين والقدس المحتل واحد، هو إسرائيل طفل العالم المدلل أمريكيًّا ودوليًّا، لكن في بلاد الشام المحتلون كُثر (الفرس والروس والأتراك والأمريكان، وبالطبع حزب الشيطان له نصيبه). وإذا كان الطغاة يعتقدون أن الخيار السياسي والانتخابات (الديمقراطية) المزعومة قد تجلب أمنًا واستقرارًا فإن هذا نوع من (الهراء) حتى إذا تمكن الدكتاتوريون في هذا الزمان من الفوز في الانتخابات، وأطلقوا عليها لقب النزاهة، فإنه في ظل الديمقراطية يرى كثير من المفكرين وأهل الديمقراطية أنه من الظلم أن يحكم الأغلبية الأقلية، فكيف يكون الأمر إذا فاز بالحكم والإدارة الأقلية (العلوية) والأكثرية هم أهل السنة والجماعة، الذين يمثلون 90 في المئة من السكان؟!
ثم كيف لهذه الدول المتصارعة على الأرض السورية أن تتحد صفًّا واحدًا ضد الشعب السوري؛ ليبقى على السلطة (دمية) تحركها هذه الدول كيفما تشاء؟ بعد تجزئة البلاد إلى دويلات صغيرة، ليست ضمن تجزئة الشرق الأوسط الجديد التي كانت قد طُرحت في أوائل التسعينيات، ولكن ضمن نظرية جديدة مفهومها تجزئة بعض الدول العربية إلى كونتونات، تتبع لحاكم خاضع للدول الغازية، أو على الأقل تسير في فلكها، وهذا هو المشاهد اليوم.
ثم كيف يبقى هذا الطاغية على رأس السلطة بعد أن قتل مئات الآلاف وجرح الملايين، فضلاً عن مئات الألوف من المعاقين الذين وراء قضبان السجون من المعذبين؟
وكيف سيبقى الطاغية بعد هذه الجرائم البشعة، ومنها استعمال الأسلحة الكيميائية المحرمة دوليًّا ضد المدنيين السوريين في مواقع عدة، منها الغوطة الشرقية، إدلب، خان شيخون، دوما.. وغيرها، ورغم أن النظام الفاشي وروسيا وراعية الإرهاب طهران تعمدوا طمس حقائق الإرهاب الكيميائي، ونبش قبور الضحايا لإخفاء رفاتهم، واستدعاء الأطباء وغيرهم لقسرهم على تغيير شهاداتهم التي سجلتها هيئة حظر الأسلحة الكيميائية الدولية، إلا أنه لا يضيع حق وراءه مطالب.
فهل سيبقى هذا الملتحف بلباس خامنئي كعبد له على جثث ودماء الشعب السوري؟
التاريخ يلقي علينا عِبَره ودروسه بلغة فصحى؛ ليقول إن من يركب صهوة النظام الدكتاتوري الشمولي، ويقتل شعبه، ويستنجد بالكفرة ورعاة الإرهاب لقتل الشعب وتشريده، واحتلال أرضه وتدميرها، لا شك أنه سيسقط يومًا إما مقتولاً أو مشردًا لا يُعلم مصيره.
إنه سيسقط بعد أن تصيبه الأمراض التي ستفت في عضده، وتنهكه، وتؤدي به إلى الهلاك.. وقد يصبح يومًا ذليلاً مكسورًا أمام محكمة الجنايات الدولية.
طاغية سوريا سيسقط لأنه خان الشعب، وفرط في خدمته، وجعل ولاءه للغزاة من شيعته وغيرهم.
وسيأتي اليوم الذي سيزفر فيه زفرة ألم وحسرة على السلطة التي لم يحمل مسؤوليتها، وسيكون مصيره أسود كأنظمة استبدادية سقطت قبله.
وهذا هو التاريخ في عِبَره ودروسه.