د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
العنوان شطر بيت من قصيدة طويلة لشاعر بني أمية جحدر بن مالك مطلعها:
أليس الله يعلم أن قلبي
يحبك أيها البرق اليماني
إذا جاوزتما سعفات حِجْر
وأودية اليمامة فاذكراني
وكم هي كثيرة أودية بلادنا وحياضها ورياضها؛ فليست في يمامة الشاعر فحسب؛ بل هي عدد وعُدة وإرث وتراث ومسرح لصناعة الاندماج والولاء الوطني والتوق والشوق.. وحتمًا فكل ذرة تراب وطنية تصنع نضارة للانتماء الوجداني الذي يملؤنا فنباهي به!! فعندما تلدنا الأرض وترضعنا بشهودها وشواهدها عند ذاك ينغمس الحبر في وداد عميق لا ينتهي؛ فالأماكن وثيقة تاريخية، فيها إشارات وعلامات وخرائط وجدانية، تثير كثيرًا من المقاربات والمقارنات المخضلة التي تنقلنا من دراما المكان إلى توق العناق الوطني الممتد.. ودائمًا ما يشدني ذلك البوح وسواه المتصل بالمكان المندمج في العروق والأعماق عندما كانوا يحتكمون إليه أكثر من احتكامهم للتشكيل المعرفي الآخر.. فكانت أحزانهم حول المكان عميقة دامعة..
فما إن أتم ابن زُريق سيمفونيته حتى فاضت روحه، وإن كانت بغداد الشاعر لا يُستشهدُ بها اليوم!!
استودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ولأن البيئات المنتمية للذات الوطنية دائمًا ما تكون صاقلة لروح الحكايات الخالدة فإني أبسط هنا موضوع الارتباط الفطري بالمكان الذي لم يصنعه إعلام، ولا برامج تثقيفية؛ فالبيئات الوطنية تمنح تفاصيلها بسخاء؛ فتعبق روائحها في وجدانهم.. ولكن يبقى اكتمال الرؤى حول بعض الأماكن يرقبُ عيونًا بصيرة وذائقة عليا لالتقاط المتغيرات والتجدد، وإضاءة شموع المعرفة العميقة داخل أسوار تلك البيئات وخارجها.. ويكفينا الإحساس بأن أبناء من وطني كانوا في تلك البيئات وغادروها في ذمة الله بعدما عمروها؛ إنه إحساس أثير بأننا من ذلك الجمهور الوطني الذي كان حاضرًا في ذلك المكان، وما أبدعه من إحساس!!
إن استثمار حكايات الالتحام بين الإنسان والمكان من المقومات الناجحة لبناء الوطنية الصادقة الأثيرة والمؤثرة في عمق وجدان الناس وعقولهم، وهو حتمًا صناعة إيجابية حين يقبض العقل على شيء مثير من صفحات تاريخ تلك البيئات، وحيث تمر مدن بلادنا الحبيبة بمخاض تاريخي مثمر، وترقبُ ازدهارًا استثنائيًّا في ظل حراك بلادنا النهضوي الشامل، فإن بناء مصفوفات وصفية لبيئات تلك المدن من منظور شامل يتضمن تاريخ الأرض والإنسان، كل مدينة على حدة ضمن موسوعة وطنية شاملة، تفتح كنوز المؤرخين وإن قلَّتْ، وتستدعي عقول الرواة ومَن بقي من رواد التاريخ الاجتماعي الشعبي لتلك المدن الوطنية، وتبث الحياة في الوثائق المصورة التي قد يكون بعضها قابعًا بليل ينتظر طارقًا بالنهار. وأجزم أن هناك كتابات وصفية متناثرة، لا يجمعها عقد واحد؛ وتحتاج للاحتكام للمنهج العلمي في توثيق التاريخ الوطني المجيد. وأجزم أن ذلكم سوف يكون بوابة مضيئة عن تباريح تلك المدن والأحلام البيض لساكنيها القدماء التي تحققت في عهودها الحديثة، وسوف تكون تلك الأسفار الوصفية سردًا قصصيًّا مفوهًا! وحالة فريدة.. ولعلنا نرى في تلك المؤلفات المرتقبة الخطاب الوجداني الذي يبحث عن جدوى الحياة التي كانت في تلك البيئات؛ ليحرك شوامخ الوطنية في حاضرنا؛ فتستطيل كما هو وطننا الأشم. وشكرًا سلفًا للجهات المختصة التي سوف تتولى النظر في المقترح وتنفيذه.