د. خيرية السقاف
يحدث أن تتكثف بين اليدين أزمنة، ومواقف، ومشاعر، وكلام، وأمنيات، بل تفاصيل مخزون الذاكرة، ومكنون القلب..
تلك اللحظة تختصر للمرء كل الأوقات التي عبرت به في محطاته الزمنية المختلفة..
تختصر له جميع المواقف التي مرَّ بها في محكاتها..
تختصر له أي الانفعالات التي بادره بها شعوره دهشة، فرحة، حزناً، بكاء، غضباً، سعادة، ألماً، ندماً، رضا، في مساراته الفائتة باختلافها..
تختصر له جُمل الأبجدية التي ردَّدَ حروفها، صاغ كلماتها، سمع عباراتها، قالها، أو قرأها، عبَّر بها، أو أصغى إليها..
تختصر له كل الأمنيات التي حلقت في فضاءاته، ومخيلته، وراودت أحلامه، ويقظته..
تختصر له ما في عقله خلية خلية، وما في ذاكرته، وزواياها، وأركانها، وأرففها..
تلف به جوَّة قلبه حجرة حجرة، ومرفأ وآخرَ، وترسو به مكثفة كل اللمحات في لحظة فارضة وهي تتكثف بين يديه..
الذي تقتنصه اللحظة المكثفة بين يديه يشبه فرط الرمان فوق الأرض، الحالم، والنقي، والزاهد، والطيب، والمؤْثِـر، والرفيق الرقيق، والنبيل السموح، والبناء المعطاء..
وثمة من تقتنصه أيضاً المألوم، والفاقد، والخائب، والنادم..
وآخرَ تتقلب الدنيا به فتختلف لحظة التكثيف بين يديه، ولعلها لا تُحرقُه، ولا تُـدلقه!..
قد تحل هذه اللحظة فتتكثف وهم يبحرون مع الماء، والغيم، والنسيم العليل، والطيوف العديلة، واللمحة الموغلة، والصوت المألوف، والحلم المستحيل، والنبضة المعتقة، والكلمة المؤثرة، والمحك النبيل، والجرح الندي..
قد تحضرهم والنسائم المضمخة بالخضرة تلفهم، أو حين جرداء تمسهم بقحطها، أو عندما يباغتهم الشوك، أو يحتضنهم الزهر، أو تفاجئهم الدهشة، أو تلوِّح لهم الرهبة، أو تختنق أمامهم الإنسانية، أو يذبح بين عيونهم الجمال!!..
وقد تباغتهم مكثفة حين يحتويهم شلال مائها كأنما يسَّاقط من مزونه، أو يجري عن بحوره، أو ينبع من كمونه، فلها سطوة الرُّبان بمقود السفينة، إذ تعيد لهم من منابعه كل الذي مرّ، ومضى، وهجع، واختبأ، وتبخر، ودُمل، وشُفي، وزُرع، وبُني، وقيل، وبُذل، ومُنِح، بمسرة أو مضرة، برضا أو بندم، باطمئنان أو بقلق، بأمل أو بخيبة، بثقة أو بفشل!..
فتكون اللحظة المكثفة اختصاراً فاعلاً في المسار المضاد لآنية اللحظة ذاتها..
إنها اختصار يبسط النسيج، ويلهم الهمة، ويوقظ الحلم..
إنها باختصار ميلاد المرء الجديد، عنها يؤسس إما لوتد ينهض، أو لأجنحة تحلق..
أو يذرو ما فيها للنسمة تأخذه من حيث جاءت!!..
وهو بدهشته يحرك رأسه يمنة ويسرة، ولسان حاله يقول:
يا الله، هذه اللحظة الفخمة!!..
إنها من معجزات الله في خلقه..