متى نصل إلى الوعي التام بذواتنا؟
كل خطوة تزيدنا وعيًا تقودنا لبواطن جهل تحتاج إلى تعديل. منتهى الرضا يُعيدنا إلى نقطة السخط، كأنه مضمار دائري؛ كل الخطوات بداية، ولا مجال لأن نبلغ أقصاها.
كيف نتذوق منتهى الرضا وماضينا يرقص بخفة على خطواتنا، يتبعنا كما تتبعنا أعين أمهاتنا حين ينهين عن أمر ويخشين أن نأتيه، تصدح موسيقاه، وتتسع خطواته إن ارتطم بشبيهٍ حاضر، ينكأ الجرح ويُذكرنا بأشباهه الأربعين، ثم يسحب صُرّته من فوق كتفه، ويرميها أمامنا؛ لتنكشف كل أوجاعنا السابقة، الملامح التي عبرناها، الأماكن التي هجرناها، والرائحة التي كرهناها، أغانينا التي كففنا عن ترديدها، ونفوسنا القديمة، يعيدها لنا الماضي دفعة واحدة؛ لينفض سجاد التخطي من تحت أقدامنا، ويترك لنا ترتيب الفوضى؛ ليزيد وزن الصُرّة.
يبدو أن السخط يشبه الرضا غير أن الأول مُضي بعبوسٍ واضح، والأخير مُضي بقبول، وفي كلتا الحالتين سيُطل تاريخك، وبالحديث عن التاريخ الفردي لكل منا لا تعجبني فكرة أن أُخلق لأموت ويندثر ذكري بعد عام من صمود محبيَّ في الدعاء لي واستحضار محاسني التي ليست محاسني أصلاً، ولكنها أصبحت كذلك حين غبتُ إلى المجهول؛ لأنه لم يكترث أحد في حياتي لأن يعرفني حقًّا.
عمومًا، صفاتنا الحسنة اكتسبناها حين احتجنا إليها، لكن الأنا الحقيقية من يؤرخها؟ أحلامنا التي رافقتنا عمرًا من يتبناها؟ أنا العادية أحمل في جعبتي أمنيات كبيرة، أحققها قبيل نومي، لكني حين أغادر ستُنسى كما لو لم تكن مع أني أنجبتها في أعوام كثيرة من الرغبات المتراكمة، لم يكن مخاضها سهلًا؛ كان يكلف موقفًا شاقًا بكسرٍ جديد في حائط الخاطر، الخاطر الذي لا نعرفه إلا في الجملة الشهيرة: لأجل خاطر فلان.. وكلنا لا يحمل لخاطر أحد همًا، لكنها جرت مجرى النفاق الاجتماعي.
ليس من العدل أن يخلد التاريخ أسماء كهتلر وبشار رغم أنهم سفكوا دماء الآمنين الأبرياء، وأماتوا إنسانيتنا حين عوّدونا على مشاهد التعذيب، وأنا التي كانت أقصى أعمالها أخدودًا تحفره في خيالها، وتدفن به كل من تسبب بأذيتها، ثم تستيقظ صباحًا وقد صفحت وردمت الأخدود.. تُنسى..!
تتلاشى من الذاكرة بعد أعوام معدودة، يستعصم محبوها بذكراها في أيام، وتغيب عن أذهانهم في كثير.. هه، قد لا يتذكرونها إلا في ساعات السفر الطويلة حين يخاطب المرء كل الغائبين تباعًا كأنه يعاقب نفسه على هذا الفرح.
كل الأموات الذين عرفناهم عن قرب، والذين زاملناهم، والذين سمعنا عنهم.. حقيقيون، لم يكونوا مجرد بالون أجوف، كانوا يرسمون أمجادهم بقسوتهم على ذواتهم، لهم أناسٌ أحبوهم، وشاطروهم المستقبل، لكل منهم مهنته التي احترفها في خياله، فكانت دافعًا لعملهم. المقابر تبتلع أطباء ومهندسين وطيارين ومعلمين وآباء لم يكتملوا.
كأطفالي الذين أنجبتهم في أحلامي مراتٍ عديدة، وأسميتهم أسماء كثيرة مختلفة، بل إن لكل حلم اسمًا، سيحتضنهم التلاشي معي، وسيبقى السفاح في كتاب التاريخ؛ ليكبر جيل يُمجده ويسميه بطلًا، فنحن لا نجيد شيئًا أكثر من تزوير التاريخ واختراع المبررات: لا، لن أختم بأبيات محمود درويش
تُنسى كأنك لم تكن
تُنسى كمصرع طائرٍ
ككنيسةٍ مهجورة تُنسى
كحبٍ عابر
وكوردة في الليل.. تُنسى
حسنًا..فعلت!
** **
- هيا عبدالعزيز الزومان