د. عبدالحق عزوزي
بدأ يظهر للجميع في جل الأوطان العربية والإسلامية أن المجال السياسي العام لا يقبل استغلال الدين في السياسة ولا السياسة في الدين؛ وأناس كثر كنت أعرفهم بكتاباتهم وآرائهم وتدخلاتهم المتعددة، ولي معهم سجالات علمية بناءة، بدأوا يراجعون قناعاتهم الفكرية في هذا الباب؛ فكم من قطر عربي ضيع على نفسه عقودا من التنمية والاستقرار، وضيع مصير أجيال بأكملها بسبب توجهات خاطئة داخل المجال السياسي العام، ركبت فيه أحزاب تدعي لنفسها العصمة في كل شيء فضاعت مصالح الخاص والعام وتوقفت عجلة الحياة السياسية وتلوثت نسائم الانفتاح والازدهار.
دائما ما أنصح في محاضراتي قراءة كتاب المستشار محمد سعيد العشماوي عن الإسلام السياسي الذي جاء في مقدمته: «أراد الله للإسلام أن يكون دينا، وأراد به الناس أن يكون سياسة؛ والدين عام إنساني شامل، أما السياسة فهي قاصرة محدودة، قبلية محلية ومؤقتة. وقصر الدين على السياسية قصر له على نطاق ضيق وإقليم خاص وجماعة معينة ووقت بذاته. الدين يستشرف في الإنسان أرقى ما فيه وأسمى ما يمكن أن يصل إليه؛ والسياسة تستثير فيه أحط ما يمكن أن ينزل إليه وأدنى ما يمكن أن يهبط فيه وممارسة السياسة باسم الدين أو مباشرة الدين بأسلوب السياسة يحوله إلى حروب لا تنتهي وتحزبات لا تتوقف وصراعات لا تخمد وأتون لا يهمد، فضلا على أنها تحصر الغايات في المناصب وتخلط الأهداف بالمغانم وتفسد الضمائر بالعروض. لكل أولئك فإن تسييس الدين أو تديين السياسة لا يكون إلا عملا من أعمال الفجار الأشرار أو عملا من أعمال الجهال غير المبصرين، لأنه يضع الانتهازية عنوانا من الدين، ويقدم للظلم تبريرا من الآيات، ويعطي للجشع اسما من الشريعة، ويضفي على الانحراف هالة من الإيمان، ويجعل سفك الدماء ظلما وعدوانا، وعملا من أعمال الجهاد. وعندما ساس النبي صلى الله عليه وسلم أمور المؤمنين كان يفعل ذلك بإرشاد الوحي ورقابته، في كل قول أو فعل أو تصرف، حتى يمكن القول -طبقا للاعتقاد الإسلامي- أن الوحي هو الذي كان يسوس أمر المؤمنين. وقد وقعت حوادث ظن فيها المؤمنون بأن النبي صلى الله عليه وسلم يباشرها إيحاء من الله - فلما سئل في ذلك نفى الوحي فيما أتى...»
أردت من خلال هذا السرد أن أؤكد أن الزج بالدين في السياسة خطر على الدين وخطر على السياسة، فالإسلام بخير والمسلمون بخير والذي ينقصنا هنا هو خلق أدوات التسيير الصحيحة للإبداع والابتكار في مجال تسيير الشأن العام لتحقيق التنمية والوصول إلى مدارج الكمال حتى نحقق ثقافة النحل في الإنتاج الاقتصادي المثمر. هذا هو المطلوب. بعض التوجهات السياسية الإسلامية الآن في بعض الأوطان مقتنعة على خطأ أنها يجب أن تشتغل وتفرض هيمنتها بالاستثمار المنظم لمورد حيوي يتمثل في الدين وفي مجتمعات كلها مسلمة، وهنا تكمن المشكلة لأن الصراع بين الأطياف المجتمعية السياسية سيغوص في متاهات وغيابات دينية خطيرة في مجال ليس بالديني وإنما هو مجال سياسي تتصارع الأحزاب داخله انطلاقاً من برامج حزبية دنيوية تتعلق بالاقتصاد والمجتمع والمؤسسات وغيرها وليس انطلاقاً من العوامل الدينية. والزج بالدين في المجال السياسي العام فاتح لأبواب جهنم لأنه في بعض الأحيان يخرج ضعاف النفوس والعلم أناساً من الملة لأنهم ليسوا على طريقتهم.....
وقد يقول قائل إن أي حزب في الحكم يحتاج إلى إيديولوجيا لأن أجهزة القمع المادي لا تكفي لتسعف نظاماً منتخباً بالبقاء والاستقرار والتحكم في إدارة السيطرة السياسية، كما جاء عند جرامشي عند تفسيره لمفهوم الهيمنة ولكن أجهزة الدولة الإيديولوجية حسب تعبير ألتوسير -عندما تنهض بدور الهيمنة، فإنها تنبثق انطلاقاً من مسلمات سياسية، وإذا اتسمت تلك الإيديولوجيا بالإقصائية كما كانت عند هتلر مثلاً أو طبعت بلون ديني صرف فإن فعل الإيديولوجيا هنا لن يكون فعل هيمنة رشيدة وإنما سيكون فعل عنف قد لا يلمس ولكنه يلحظ في علاقة المؤسسات بعضها ببعض والأفراد بعضهم ببعض وسيحدث في المجتمع شرخ لا يرأب وانفصال بين في جدار اللحمة الحامية للبلاد وستبقى الشرعية الدستورية ولو جاءت عن طريق صناديق الاقتراع ملتبسة الشخصية والطبيعة بسبب تكوينها الهجين وصورية القيم السياسية المثلى التي بدونها لا يمكن تحقيق مصالح المواطنين...