حدَّث أحد الأصدقاء، وقال:
بينا أنا في منزلي صبيحة يوم إذ دخل عليّ رجل صياد، يحمل في شبكة فوق عاتقه سمكة كبيرة, فعرضها عليَّ، فلم أساومه فيها، بل نقدته الثمن الذي أراده، فأخذه شاكرًا متهللاً، وقال: «هذه هي المرة الأولى التي أخذت فيها الثمن الذي اقترحته، أحسن الله إليك كما أحسنت إلي، وجعلك سعيدًا في نفسك، كما جعلك سعيدًا في مالك»! فسررت بهذه الدعوة كثيرًا، وطمعت أن تفتح لها أبواب السماء، وعجبت أن يهتدي شيخ عامي إلى معرفة حقيقة لا يعرفها إلا القليل من الخاصة، وهي أن للسعادة النفسية شأنًا غير شأن السعادة المالية. فقلت له: يا شيخ، وهل توجد سعادة غير سعادة المال؟ فابتسم ابتسامة هادئة مؤثرة، وقال: لو كانت السعادة سعادة المال لكنت أنا أشقى الناس؛ لأنني أفقر الناس. قلت: وهل تعد نفسك سعيدًا؟ قال: نعم؛ لأنني قانع برزقي، مغتبط بعيشي، لا أحزن على فائت من العيش، ولا تذهب نفسي حسرة وراء مطمع من المطامع.. فمن أي باب يخلص الشقاء إلى قلبي؟ قلت: أيها الرجل، أين يذهب بك وما أرى إلا أنك شيخ قد اختلس عقله! وكيف تعد نفسك سعيدًا وأنت حافٍ غير منتعل، وعارٍ إلا قليلاً من الأسمال البالية، والأطمار السحيقة؟!
قال: إن كانت السعادة لذة النفس وراحتها، وكان الشقاء ألمها وعناءها، فأنا سعيد؛ لأني لا أجد في رثاثة ملبسي ولا في خشونة عيشي ما يولد لي ألمًا، أو يسبِّب لي همًّا. وإن كانت السعادة عندكم أمرًا وراء ذلك فأنا لا أفهمها إلا كذلك. قلت: ألا يحزنك النظر إلى الأغنياء في أثاثهم ورياشهم، وقصورهم ومراكبهم، وخدمهم وخولهم، ومطعمهم ومشربهم؟ ألا يحزنك هذا الفرق العظيم بين حالتك وحالتهم؟ قال: إنما يصغر جميع هذه المناظر في نظري ويهونها عندي أني لا أجد أن أصحابها قد نالوا من السعادة بوجدانها أكثر مما نلته بفقدانها..
هذه المطاعم التي تذكرها إن كان الغرض منها الامتلاء فأنا لا أذكر أني بت ليلة في حياتي جائعًا، وإن كان الغرض منها قضاء شهوة النفس فأنا لا آكل إلا إذا جعت؛ فأجد لكل ما يدخل جوفي لذة لا أحسب أن في شهوات الطعام لذة تفضلها. أما القصور فإن لدي كوخًا صغيرًا، لا أشعر بأنه يضيق بي وبزوجتي وولدي؛ فأقرع السن على أنه لم يكن قصرًا كبيرًا. وإن كان لا بد من إمتاع النظر بالمناظر الجميلة فحسبي أن أحمل شبكتي فوق كتفي كل مطلع فجر، وأذهب بها إلى شاطئ النهر، فأرى منظر السماء والماء، والأشعة البيضاء، والمروج الخضراء، فما هي إلا لفتة الجيد حتى يطلع من ناحية الشرق قرص الشمس، كأنه ترس من ذهب، أو قطعة من لهب، فلا يبعد عن خط الأفق ميلاً أو ميلين حتى ينثر فوق سطح النهر حليه المتكسر، أو دره المتحدر، فإذا تجلى هذا المنظر في عيني، يتخلله سكون الطبيعة وهدوؤها، ملك عليَّ شعوري ووجداني؛ فاستغرقت فيه استغراق النائم في الأحلام اللذيذة، حتى لا أحب أن أعود إلى نفسي إلى يوم النشور..
ولا أزال هكذا غارقًا في لذتي حتى أشعر بجذبة قوية في يدي فأنتبه، فإذا السمك في الشبكة يضطرب، وما اضطرابه إلا لأنه فارق الفضاء الذي كان يهيم فيه مطلق السراح، وبات في المحبس الذي لا يجد فيه مراحًا ولا مسرحًا، فلا أجد له شبيهًا في حالتيه إلا الفقراء والأغنياء؛ يمشي الفقير كما يشتهي، ويتنقل حيث يريد، كأنما هو الطائر الذي لا يقع إلا حيث يطيب له التغريد والتنقير، ولولا أن تتخطاه العيون، وتنبو عنه النواظر، ما طار في كل فضاء، ولا تنقل حيث يشاء. أما الغني فلا يتحرك ولا يسكن إلا وعليه من الأحداق نطاق، ومن الأرصاد أغلال وأطواق، ولا يخرج من منزله إلا إذا وقف أمام المرآة ساعة، يؤلف فيها من حقيقته وخياله ناظرًا ومنظورًا، ثم يطيل التفكير: هل يقع المنظور من الناظر موقعًا حسنًا؟! حتى إذا استوثق من نفسه بذلك خرج إلى الناس يمشي بينهم مشية يحرص فيها على الشكل الذي استقر رأيه عليه؛ فلا يطلق لجسمه الحرية في الحركة والالتفات حتى لا يخرج بذلك من حكمها، ولا لفكره الحرية في النظر والاعتبار بمشاهد الكون ومناظره مخافة أن يغفل عن إشارات السلام، ومظاهر الإكرام.
فإذا أخذتُ من السمك كفاف يومي، عدت به، وبعته في الأسواق، أو على أبواب المنازل، فإذا أدبر النهار، وعدت إلى منزلي، فيعتنقني ولدي، وتبش زوجتي في وجهي، فإذا قضيت بالسعي حق عيالي، وبالصلاة حق ربي، نمت في فراشي نومة هادئة مطمئنة، لا أحتاج معها إلى ديباج وحرير، أو مهد وثير، فهل أستطيع أن أعد نفسي شقيًّا وأنا أروح الناس بالاً، وإن كنت أقلهم مالاً؟!..
إنه لا فرق بيني وبين الغني إلا أن الناس لا ينهضون إجلالاً لي إذا رأوني، ولا يمدون أعناقهم نحوي إذا مررت بهم، وأهون به من فرق لا قيمة له عندي، ولا أثر له في نفسي! وما يعنيني من أمرهم إن قاموا أو قعدوا، أو طاروا في الهواء، أو غاصوا في أعماق الماء، ما دمت لا علاقة بيني وبينهم، وما دمت لا أنظر إليهم إلا بالعين التي ينظر بها الإنسان إلى الصور المتحركة.
لا علاقة بيني وبين أحد في هذا العالم إلا تلك العلاقة التي بيني وبين ربي؛ فأنا أعبده حق عبادته، وأخلص في توحيده، فلا أعتقد ربوبية أحد سواه. ولا أكتمك يا سيدي أني لا أستطيع الجمع بين توحيد الله والاعتراف بالعظمة لأحد من الناس. ولقد أخذ هذا اليقين مكانه من قلبي، حتى لو طلع عليّ الملك المتوج في مواكبه وكواكبه، وبطانته وجنده، لما خفق له قلبي خفقة الرهبة والخشية، ولا شغل من نفسي مكانًا أكثر مما يشغله ملك التمثيل.
ولقد كان هذا اليقين أكبر سبب في عزائي وراحة نفسي من الهموم والأحزان، فما نزلت بي ضائقة، ولا هبت علي عاصفة من عواصف هذا الكون، إلا انتزعني من بين مخالبها، وهوَّنها علي حتى أكاد لا أشعر بوقعها. وكيف أتألم لمصاب أعلم أنه مقدور لا مفر منه، وأنني مأجور عليه على قدر احتمالي إياه، وسكوني إليه.
آمنت بالقضاء والقدر، خيره وشره، وباليوم الآخر، ثوابه وعقابه؛ فصغرت الدنيا في عيني، وصغر شأنها عندي، حتى ما أفرح بخيرها، ولا أحزن لشرها، ولا أعول على شأن من شؤونها حتى شأن الحياة فيها. وأقسم: ما خرجت مرة إلى شاطئ النهر حاملاً شبكتي فوق عاتقي إلا وقع الشك في نفسي: هل أعود إلى منزلي حاملاً أم محمولاً؟!
ما العالم إلا بحر زاخر، وما الناس إلا أسماكه المائجة فيه، وما ريب المنون إلا صياد يحمل شبكته كل يوم ويلقيها في ذلك البحر، فتمسك ما تمسك، وتترك ما تترك، وما ينجو من شبكته اليوم لا ينجو منها غدًا، فكيف أغتبط بما لا أملك، أو أعتمد على غير معتمد؛ إذن أنا أضل الناس عقلاً، وأضعفهم إيمانًا.
قال المحدث: فأكبرت الرجل في نفسي كل الإكبار، وأعجبت بصفاء ذهنه، وذكاء قلبه، وحسدته على قناعته واقتناعه بسعادة نفسه، وقلت له: يا شيخ، إن الناس جميعًا يبكون على السعادة، ويفتشون عنها فلا يجدونها، فاستقر رأيهم على أن الشقاء لازم من لوازم الحياة، لا ينفك عنها، فكيف تعد العالم سعيدًا وما هو إلا في شقاء؟!
قال: لا يا سيدي، إن الإنسان سعيد بفطرته، وإنما هو الذي يجلب بنفسه الشقاء إلى نفسه؛ يشتد طمعه في المال؛ فيتعذر عليه مطمعه، فيطول بكاؤه وعناؤه، ويعتقد أن بلوغ الآمال في هذه الحياة حق من حقوقه، فإذا أخطأ سهمه، والتوى عليه غرضه، شكا شكاة المظلوم من الظالم.. ويبالغ في حسن ظنه بالأيام، فإذا غدرت به في محبوب لديه من مال أو ولد، وفاجأه من ذلك ما لم يكن يقدر وقوعه؛ ناله من الهم والألم ما لم يكن ليناله لو خبر الدهر وقتل الأيام علمًا وتجربة، وعرف أن جميع ما في يد الإنسان عارية مستردة، ووديعة موقوتة، وأن هذا الامتلاك الذي يزعمه الناس لأنفسهم خدعة من خدع النفوس الضعيفة، ووهم من أوهامها.
إن أكثر ما يصيب الناس من الشقوة من طريق الأخلاق الباطنة، لا من طريق الوقائع الظاهرة؛ فالحاسد يتألم كلما وقع نظره على محسود، والحقود يتألم كلما تذكر أنه عاجز عن الانتقام من عدوه، والطماع يتألم كلما خاب أمله في مطمع، والشارب يتألم كلما أفاق من سكره، والزاني يتألم كلما فاوضته في الإثم سريرته، والظالم يتألم كلما سمع ابتهال المظلوم بالدعاء عليه، أو حاق به ظلمه، وكذلك شأن الكاذب والنمام والمغتاب، وكل من تشتمل نفسه على رذيلة من الرذائل.
من أراد أن يطلب السعادة فليطلبها بين جوانب النفس الفاضلة، وإلا فهو أشقى العالمين وإن ملك ذخائر الأرض وخزائن السماء!
قال الصديق: فما وصل الصياد من حديثه إلى هذا الحد حتى نهض قائمًا، وتناول عصاه، وقال: أستودعك الله يا سيدي، وأدعو لك الدعوة التي أحببتها لنفسك وأحببتها لك، وهي أن يجعلك الله سعيدًا في نفسك كما جعلك سعيدا في مالك. والسلام عليك ورحمة الله.