د.مساعد بن عبدالله النوح
ليست مبالغة إن قلت إنه واحد من الموضوعات التربوية الملحة في المجتمع، التي لا تخلو مدرسة أو كلية وما في حكمهما منه، كما لا يخلو بحث عن التربية المدرسية إلا وأشار إليه، وانتشار الحالات التربوية من مشكلات وظواهر وقضايا في المجتمع هو واحد من أسبابها.
هو الإهمال العاطفي للطلاب، ويعني تقصيرًا أو تغافلاً أو تهاونًا أو تكاسلاً يشعر بها طالب من الجنسين أو أكثر من تربويين محيطين به، أو تربويات محيطات بها، عمدًا أو نسيانًا؛ إذ لا يجد منهم العناية اللازمة تحت ظروف معينة كضغط العمل اليومي لديهم، أو الإحساس بأنهم غير مسؤولين عنه؟ ويأخذ هذا التقصير أشكالاً كقلة احترام الطالب، وتجاهل إنسانيته، وإهمال ظروفه الصحية، والنفسية، والاقتصادية، والأسرية، التي يفترض على التربويين والتربويات الإحاطة بها قدر الإمكان؛ فينتج منه أضرار محددة، تختلف باختلاف طبيعة كل طالب، ونوع جنسه، والخلفية الأسرية والالتزامات المفروضة، مثل: التقصير في الوفاء بالواجبات المنزلية، والتأخر المتعمد عن حضور الحصص أو المحاضرات، والتأخر الدراسي، والتخلف عن حضور الاختبارات الفصلية والنهائية. وهذه النتائج لا يرضى بها أي تربوي لديه نزعة من شعور ديني وضمير أخلاقي وعاطفة أبوية.
ويعود سببه إلى غياب حضن أسري دافئ، يسع الطالب أو الطالبة منذ الطفولة لإشباع عواطفهم؛ فالآباء والأمهات في لهثة دائمة خلف مبررات مشروعة، مثل: ملازمة وظائفهم، ومواصلة دراستهم، وتوفير متطلبات الحياة المادية.. وبعضهم مبرراتهم غير مشروعة، كالهوس في الارتباطات الاجتماعية على محيط العائلة الكبيرة، والافتتان بإقامة صداقات، وحضور الأنشطة الاجتماعية والمناسبات العامة، ناسين أو متناسين أنه يمكنهم الموازنة بين طموحاتهم الوظيفية والدراسية والاجتماعية وتطلعات أبنائهم منهم مقابل مشاعر معنوية لا تكلفهم إلا مجهودًا متواضعًا، يجعل منهم متوازنين علميًّا وعاطفيًّا.. وصدق أحمد شوقي عندما قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه
من همّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أُمًّا تخلت أو أبا مشغولا
وتتعدد نتائج الإهمال العاطفي لدى الطالب كما يشير أحد المهتمين بهذا الموضوع، وحسب الممارسة والاحتكاك بالطلاب، منها: الهروب من الواقع؛ فيتجه إلى أن يملأ يومه ولو بطريقة خاطئة؛ ليغدق عليه مشاعر مفقودة، ويبادله الإعجاب والتقدير.. ولا محالة سيجد في محركات البحوث وشبكات التواصل الاجتماعي من يبادله الهموم، ويشبع رغباته. وتؤكد الوقائع الاجتماعية اليومية وقوع الكثير من الشباب من الجنسين في عملية نصب وخداع، يدفعون على أثرها ضريبة باهظة الثمن أخلاقيًّا واجتماعيًّا.. أفلا نسمع عن هروب بعض الفتيات من أسرهن مع مَن أعجبن به ولو كان ذلك الآخر من بلاد بعيدة؟ وتكفي بعض كلمات معسولة للإيقاع بهن وخداعهن!
والتعلق بالقدوات المزيفة من نتائج الإهمال؛ إذ يبحث الطالب عن تعويض ما ينقصه من انفعالات بطرق كثيرة، كالبحث عن أشخاص يتعلقون بهم، ويصبحون كل اهتمامهم. والخطورة هنا أن يكون هؤلاء الأشخاص منحرفي الفكر والمنطق والسلوك؛ فتتم معالجة الإهمال العاطفي بطرق خاطئة؛ فتتعمق المشكلة؛ وبالتالي يصعب حلها.
والانحرافات السلوكية نتيجة أخرى للإهمال العاطفي للطالب؛ فلأنه فاقد لإنسان ناصح له، يوجهه ويحاسبه، فإنه يمارس ما يشاء دون رقيب؛ فيقع في انحرافات سلوكية عاطفية أو جنائية، يترتب عليها أحكام شرعية لا قدر الله.
والعزلة والانطواء نتيجة للإهمال، ويترتب عليهما قلة عدد الأصدقاء وزملاء الدراسة؛ وبالتالي لا يجد من يرتبط به، ويحادثه، ويتبادل معه الأفكار والمعلومات والحلول للمشكلات التي تواجهه. وهذه نتيجة تتعارض مع طبيعة الإنسان السوي؛ إذ إنه يميل للآخرين بطبعه.
لقد أجمعت كتابات تربوية عدة على أن المدرسة هي المؤسسة التربوية الثانية بعد الأسرة من حيث الأهمية. وهذا يتضح من طبيعة الوظائف التي تقوم بها كمًّا ونوعًا، تؤديها في انسجام تام مع بقية مؤسسات التربية في المجتمع. ومن وظائفها الوظيفة الاستكمالية، أو الإصلاح الاجتماعي، وتعني أن تتلمس المدرسة الحاجات الفعلية لطلابها في ضوء إمكاناتها وصلاحياتها، وتعمل على مواجهتها بطرق تربوية. وهذا موقف يجسِّد الدور التربوي للمدرسة، وهو يقف جنبًا إلى جنب مع الدور التعليمي والتثقيفي لها.
فإذا كانت المدرسة لا تقصر في مواجهة التهاون الديني والأخلاقي لبعض سلوكيات الطلاب فإنه من الواجب بمكان أن لا تقصر في مواجهة من يثبت لديه إهمال عاطفي من الطلاب بتوجيه المعلمين والمعلمات والأسرة بأنماط الانفعالات التي يحتاج إليها الأبناء.
وفي هذا العصر يتزايد التوجيه للقيام بالوظيفة الاستكمالية للمدرسة؛ لانتشار شبكات التواصل الاجتماعي، وبث مقاطع لفيديوهات، وصور، ورسوم، وإعلانات، وتعليقات، كانت بالأمس من المحرَّمات، وأضحت اليوم من المألوفات!
والتربويون والتربويات الذين ينتظرون الحوافز المادية مقابل هذه الوظيفة فإنها قد تتأخر، وربما لا تأتي، ومن ينتظر ما عند الله فإنه آتٍ، وباقٍ، وسيجنون ثمرات إخلاصهم في حياتهم الدنيا والآخرة؛ فما عند الله خير وأبقى.
ويوجد من التربويين والتربويات - وهم كُثُر - من كانوا سببًا في إصلاح سلوكيات طلابهم، ودفعهم إلى دراستهم؛ فكانوا شركاء حقيقيين في صلاحهم الديني والأخلاقي، ونبوغهم الدراسي والوظيفي والاجتماعي. ومن ناحية مهمة، فالطالب يتأثر بطريقة معلمه أو مؤدبه في تعامله مع الآخرين، ويأخذ منه نموذجًا في تعامله مع طلابه والآخرين في المستقبل.
ويكفي كل تربوي وتربوية أنهما يتجنبان تحذير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القسوة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن الأقرع بن حابس أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبِّل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحدًا منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه من لا يرحم لا يُرحم». رواه مسلم.