هدى مستور
القوة الخالدة التي يحظى بها الجمال، لم تؤهل أحداً من عمالقة الحكماء والفلاسفة ليسطر تعريفاً وافياً لحقه. يعود ذلك لحيثيات عدة أحدها طغيان الإحساس بالجمال إلى الحد الذي يغمر الحواس ويذهل العقل.
الجمال يحظى أكثر من غيره من القيم بقدر فائض من الوفرة والكثرة، والغموض، معاً، هو موجود بعدد من نجح في خوض تجربة جمالية عمادها الإحساس به، وتذوقه، واكتشافه وتأمله. لعل ذلك يعود إلى أن الجمال يتركب من جمال معنى وقيمة وآخر جمال مبنى وصورة.
وعلى الرغم من أن الله الجميل سبحانه قد خلق للناس نزعة فطرية لملاحظة الجمال وتمييزه، إلا أن المعنى الجمالي لا تتذوقه إلا النفس الحرة ولا يتلذذ به إلا ذو العقل الصافي. والإحساس بهذا النوع يقتصر على من يتمتع بقدر وافر من عناصر مجتمعة تتحسس الجمال: كرهافة شعور، وعمق إدراك، واتساع أفق، يفتقدها إلى حد كبير كثيف الحس، سطحي النظر، محدود الرأي؛ فلا يلحظ الجمال قلب متذبذب الشعور، ضعيف الإدراك، غليظ الحس، أحادي الفكرة، لا يعبأ بأكثر المصادر الإنسانية خصوبة وثراءً، كالخيال والإلهام والحب. وقد صدق شاعر الجمال حين أطلق حكمته الجميلة:
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا
إن تذوق جمال المعنى يخدم إلى حد كبير الحقيقة، أينما وجدت، وينظم الفكر، ويغذي الشعور، ويهذب الأخلاق ويرقى بالسلوك.
الإحساس بالجمال يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بجمال من خلق الحياة، ونظم الكون، وأبدع الطبيعة، وأسبغ عليهم كساء الجمال؛ فالجمال من صفاته سبحانه، وهو ما يدلنا عليه ويعرفنا به.
تذوقنا للجمال يبدو أكثر نضجاً وعمقاً حين نتأمل في عدد من آياته تعالى المبثوثة سواء المكتوبة أو المنظورة (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (6) النحل... وفي تأمل رحابة الكون وجمال الطبيعة، ما يغنينا ويكفينا في حال فوات فرص اللذائذ الأخرى.
الإحساس بالجمال يبدأ طريقه من داخل الانسان نفسه، في التأمل في فرادته، وجمال صنعه (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (4) التين
ربما بعد خوضنا العاطفي لعدد كبير من التجارب الحياتية، ووصولنا لمرحلة متقدمة من إدراك الأفكار المتعلقة بالكون والحياة والإنسان أصبحنا أكثر اشتياقاً للجمال وإحساسنا به أكثر رهافة وعمقاً...
لا أدري إن كان الإحساس بالحب يسبق تلمس الجمال أو يتبعه، ولكن ما أعرفه أن سامي الروح المتذوق لمَلَكة جمال المعنى يتسامى فوق حدود الشكل ويتجاوز إطار الصورة، هو يحس بالجمال الكامن في جوهر الحب مع محبوبه (وإن لم يحظى برؤيته أو حتى لم يتحلى محبوبه بالحد الأدنى من مقاييس الجمال المادية)، هو يستمتع ويتلذذ به، وإن كان لا يعرف الطريقة التي يحسه بها!. تجده بعد تجربته الجمالية مع الحب، قد شق ينابيع جديدة تروي بماء الحب كل الحقول المجدبة من حوله.
وأبى الإنسان إلا أن يخلع وجوداً حيًا على هذا الإحساس الرقراق النبيل تجاه قيمة جمالية في شيء ما من خلال تجسيدها بهيئة تتسم بالتناغم والتناسق الذي يمثل أقوى خصائص الجمال. من خلال الفنون التالية: المعمار، الرسم، والنحت والشعر والكتابة... عدد كبير منها يقف المتأمل مشدوداً أمام سحر الفكرة أو جاذبية الشعور التي امتلكته في لحظته، ونقلته إلى تجربته الخاصة، وذكرياته الحلوة، أكثر مما يصنعه فينا المنتج الجمالي نفسه.
الإحساس بالجمال والتعبير عنه، لهما علاقة وثيقة إلى حد كبير بالتمدن الحضاري، وأمارة على بلوغ النضج الإنساني، إذ هما تعبير عن الحرية التي تميز بها الإنسان في تجسيد الضمير، وكذلك هو صورة متحضرة لممارسة نشاط إنساني بعيد عن تعقيدات المهن، يسهم في تجميل الحياة، والتخفيف من وطأتها.
من يملك قدراً من الحس الجمالي - في الغالب- هو يبتعد أو يقترب من عنصري الخير والشر بحسب دنوه من الجمال أو بعده، إذ كل الخير يقطن بجوهره جمالاً فياضاً.
الإحساس بالجمال لا يشبه تلذذ الحواس المصحوب بالأنانية والرغبة بالتملك، والمختوم بالإشباع، الإحساس بالجمال ينبع من الروح ويتصف بصفاتها؛ فهو تأمل ينشد المتعة الروحية دون أن تخالطها مصلحة أو تعكر صفوها شهوة.
فهل نحس بالجمال حقاً؟!