إعداد - أ. د. محمد بن يسلم شبراق:
في أول يوم سبتٍ من شهر سبتمبر يحتفل العالم باليوم العالمي للتوعية بالنسور، بدأت فكرته من خلال برنامج للمحافظة على الطيور الجوارح بجنوب إفريقيا وجمعية الباز البريطانية لإقامة فعالية ليوم واحد تهدف للتوعية بالنسور وأهميتها ودورها في النظام البيئي، وبعد النجاحات التي حصدتها الفعاليات، ليتحول يوم التوعية بالنسور، ليصبح من ضمن الأيام العالمية البيئية المهمة والتي تنظّم لها الفعاليات سنوياً من جهات ومنظمات عالمية مهتمة بالمحافظة على الحياة الفطرية بشكل عام، والنسور بشكل خاص لتغطي معظم قارات العالم.
ويأتي هذا الاهتمام العالمي بالنسور إلى تناقص أعدادها بشكل كبير حتى دخلت أنواع منها قائمة الأنواع المهددة بالانقراض، وأنواع أخرى تعدت ذلك لتقترب من حافة دوامة الانقراض والتي يصعب إنقاذها لو سقطت في هذه الدوامة. وتركز معظم الفعاليات في هذا اليوم إلى تقديم برامج توعوية للتعريف بأهمية النسور وإبراز دور هذه الطيور في النظام البيئي وما تقدمه من خدمات مجانية للبشرية، والتعريف بما تواجهه النسور من مخاطر عديدة معظمها للأسف من تأثير الإنسان سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ولمشاركة العالم هذه الفعالية أحببت أن أحلق مع النسور للتعريف بها وأهميتها ودورها في النظام البيئي، وذلك من خلال سرد بعضٍ مما في الذاكرة عن عالم النسور، ولنذكر بما تحويه بلادنا الغالية من تنوع فطري، من خلال صفحات جريدتي المفضلة «الجزيرة» السعودية والتي لها السبق في المشاركة بهذا اليوم، ليس على صحف المملكة فحسب لكن ربما على صحف العالم العربي.
تحليق النسور
بدأت رحلتي مع النسور قبل أكثر من 31 سنة عندما كنت أجوب مع معلمي د.أسد رحماني الهندي الجنسية والرئيس السابق لجمعية بومباي للتاريخ الطبيعي في براري سهول تهامة للبحث عن الحُبْرُو العربي، ذلك الطائر الجميل الذي اختفى من معظم مناطقه بسهول تهامة، والممتدة من جنوب جدة إلى الحدود اليمنية، كنت حينها حديث العمل بالهيئة السعودية للحياة الفطرية، وأحلام الشباب تراودني لاكتشاف أسرار تراثنا الفطري فتسهل كل الصعاب التي يمكن أن تواجهنا بهذه الرحلة، فلم يكن يُعرَف عن أماكن الحُبرو العربي إلا ما ذكرته بيانات العينات المحفوظة في متحف التاريخ الطبيعي بترنك - المملكة المتحدة، وكأننا نبحث عن طائر أسطوري في عالم وسيع مترامي الأطراف.
كنا نجوب خبوت منطقة خميس حرب شمال شرق مدينة القنفذة، عندما صرخ د. رحماني يطلب مني التوقف ليتفحص بمنظاره المقرّب أحد التلال الرملية التي أمامنا ليتعرّف على الطيور التي عليها، وما أن أبصرها بمنظاره حتى سمعت صوته يقول بلغة إنجليزية مخلوطة بلكنة هندية.. إنها النسور السمراء، وطلب مني الاقتراب بحذر للتمعّن ومحاولة معرفة أعداد أفرادها، وإذا ما كانت هناك طيور أخرى بالجوار، وخصوصاً أننا في موسم هجرة للطيور.
اقتربنا من المكان وبدأنا نتفحص الموقع التي بها النسور التي تجمعت على جثة خروف ملقى على التلة، محاطة بعدد بسيط من نسور تقترب رويداً رويداً من الجيفة، وما هي إلا دقائق وشعرنا بظلال يحجب ضوء الشمس يتحرك فوقنا وكأنها سحابة عجِلة، محتارةً في هدفها، نظرنا في جو السماء فإذا هي مجموعة من النسور تحلق فوقنا فاردةً أجنحتها تحوم بمسار دائري، تصغر دائرته كلما اقترب من مكان التجمع للنسور، لقد تذكرت وأنا أنظر للنسور محلقةً بالسماء أبيات لأحد شعراء الحداثة: محمد إبراهيم أبو سنة وهو يرمز للقوة والكبرياء والطموح في تحليق النسور حيث يقول:
النسورُ الطليقَةُ هائِمَة..
في الفضاءِ الرَّمادِي..
تَرْصُدُ مَوْقِعَها..
في أعَالِي الجبال..
إنها تتَذَكَّرُ شكلَ السُهُول..
بخُضْرَتِها
بتَدَفُّقِ غُدرانِها..
كان المنظر مهيباً، نسور بالسماء باسطةً أجنحتها، خافضة أرجلها تستعد للانقضاض، قادمة من كل حدب وصوب، ونسور على جثة الخروف تقترب باستحياء يشوبه الخوف، وما إن وصل أول نسر لجثة الخروف حتى تسابق من كان بالخلف على الجيفة وكأنها ساحة معركة، والنسور الطائرة تزيد من سرعتها وكأني أمام نزول مظلي لجيش مساند للفرقة الأرضية، وما هي إلا لحظات وبدأ هرج كبير فذاك يقفز وذاك ينزل ويرتفع والكل يتهافت للحصول على ما قسمه الله لها من رزق، والعجيب في كل ذلك أن الكل حصل على نصيبه بدون إصابات، ولا دماء متناثرة.
لقد أخرج هذا المنظر الدكتور رحماني من صمته، وبدأ بإفراغ ما بجعبته من معرفة عن هذه الطيور، فبدأ حديثه بسؤال: أتعلم كيف تجد هذه النسور غذاءها؟
نظرت إليه فوجدته توقف عن المراقبة وأخذ ينظر باتجاهي محركاً رأسه وكأن الإجابة لدي لا محالة، ما زلت أتذكر ذلك الشعور وكأني تلميذ لم يحفظ الدرس ينتظر منه معلمه تسميع الدرس، ولا أعلم كيف جال في خاطري بيت شعرٍ قرأته في كتاب الجاحظ يشير إلى أن النسور تتبع الجيوش وتحلِّق فوقهم وتتبعهم ببصرها الحاد، فهي تهدي طيور ونسور أخرى لمواقع الموتي:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم
عصائب طير تهتدي بعصائب
فقلت مجيباً على سؤاله وبصوت غير المتأكد من الإجابة وبنبرة الخائف من نظرات العتاب: هل هي حاسة البصر؟
لم يمهلني لأكمل جملتي أو يبين لي صحيح الإجابة وبادر بالقول: إن غذاء النسور موزع بطريقة عشوائية يصعب التكهن بوجوده، لكن بسلوكها التعاوني فإنها تتمكن من الوصول لغذائها بمساعدة بصرها الحاد، فهي تحلّق في مجموعات متفرِّقة بالسماء وفي اتجاهات متفرقة وعلى مرأى من بعضها البعض، لتكون شبكة كبيرة للمراقبة بالسماء، وعندما ترى مجموعة منها موقع الغذاء تبدأ بالدوران والانخفاض التدريجي فتبصرها مجموعات الأخرى فتتوجه إليها فتتبعها المجموعات الأخرى فالأخرى.
وما هي إلا نصف ساعة حتى خفت الحركة واختفت الأصوات وبدأت بعض النسور تبتعد من مكان المعركة، لتقف جانباً لتنظّف وتصفف ريشها وتناظر بعضها بعضا، لفترة ليست بالطويلة قبل أن تبدأ بالجري بتثاقل فاردة أجنحتها وكأنها في مدرج للطيران تستعد للإقلاع، لتحليق بشكل دائري صاعدة في كبد السماء.
استرسل د. رحماني في حديثه وهو
يرى هذا المنظر قائلاً: إن النسور رغم كبر حجمها إلا أنها بارعة في الطيران، فهي تعتمد على تيارات الحمل الهوائية (الهواء الساخن) لرفعها عالياً بدون تحريك أجنحتها، مما يقلِّل من فقدها للطاقة ويجعلها تتحرك لمسافات بعيدة، وقد تصل سرعة بعضها إلى أكثر من 40 كيلومتر بالساعة، أتعلم أيضاً أن النسور سجل طيرانها لمسافة 150كم خلال بحثها عن الغذاء، كما أنها تدل أنواعاً أخرى من الحيوانات لمواقع الغذاء كمجموعة الضباع، فقد أشارت دراسة في السهول الإفريقية تتبع الضباع للنسور لمسافة تصل إلى عشرات الكيلومترات لترشدها لمواقع الغذاء.
لم نتمالك أنفسنا لنخرج من السيارة متجهين نحو موقع الخروف للمعاينة لساحة معركة مهمة في النظام البيئي الكل فيها كسبان، حتى الخروف الذي لم تبقى منه سوى عظام متناثرة، ارتاح من التحلّل الطويل.. فسبحان من يحيي العظام وهي رميم.
النسور غير كل الطيور
ما إن ولجنا داخل السيارة حتى بادر د. رحماني بالحديث قائلاً: إن للنسور مميزات شكلية تنفرد بها عن الطيور الأخرى فهي تتميز بخلو منطقة الرأس من الريش، وهذه الصفة لها علاقة بتكيفها مع طبيعة تغذيتها.. فسألته كيف ذلك؟ وبتقدير وإجلال لهذه الطيور أجابني قائلاً: إن هذه النسور تتغذى على الحيوانات النافقة، وهذا النوع من الغذاء يحتوي على سوائل مثل الدم والماء المتعفن نتيجة تحلل أحشاء الحيوان، وعند تغذية النسور عليها، فإن التصاق هذه السوائل بالريش بمنطقة الرأس شيء مفروغ منه، ولعدم قدرة النسور على تنظيف منطقة الرأس، لذا فإن خلو هذه المنطقة من الريش مهمة حتى لا تتأثر بالملوثات والتي قد تسبب لها الأمراض، وقد أبدلها الله سبحانه وتعالى بزغب أبيض خفيف وكثيف يتساقط بشكل دوري ليمنع وصول المواد السائلة المضرة لسطح الجلد.
ما إن انتهى من حديثه، وقبل أن أتفوه بكلمة بادرني بسؤال آخر وكأنه يختبر معرفي بالطيور قائلاً: أتعلم ما أنواع النسور التي شاهدناها؟
لقد أشعرني سؤاله وكأنه اختبار لي لمعرفتي بالطيور، صحيح أنني حديث عهد بالعمل لكن عملي بالهيئة منذ بداية إنشائها ومشاركتي العمل مع خبراء ومتخصصين، وهو ما يفتقده أبناء الهيئة بالوقت الحالي، ساهم كثيراً في تعريفي بالعديد من أنواع الحياة الفطرية وبالأخص الطيور، كما أن تشجيع الأمين العام للهيئة بذلك الوقت الأستاذ الدكتور عبدالعزيز أبو زنادة والذي له الفضل بعد الله في الكثير من الإنجازات على المستوى المحلي والعالمي، والذي لم يكن سيتحقق لولا الدعم السخي من الأمير سلطان بن عبدالعزيز رئيس مجلس الهيئة بذلك الوقت والأمير سعود الفيصل العضو المنتدب.
أحمد الله أنني قلّبت صفحات عدد من كتب الطيور قبل أن نتحرك لإجراء المسوحات، فأجبت إجابة الواثق من نفسه.. إنها النسور السمراء والنسور المصرية.. ونظرت إليه فوجدته يحرك رأسه طالباً مني الاسترسال بالحديث بما أعرفه عنهما: نظرت إليه وقلت في نفسي والله البلشة فلغتي الإنجليزية ليست جيدة فكيف أتحدث عما أعرفه عن النسرين باللغة الإنجليزية يفهمني من خلالها، وقد استفدت من وجودي خلف مقود السيارة وتحدثت بشكل بسيط ومتقطع وكأن العناية بالطريق تشغلني عن الحديث بشكل متواصل وأعتقد أنني نجحت في تجميع الكلمات المناسبة عن النسرين.
فذكرت له أن المملكة سجل فيها خمسة أنواع من النسور؛ أربعة منها متناسلة بالمملكة وأيضاً تصل إلى المملكة أفراد منها مهاجرة من هذه الأنواع الأربع والتي منها النسر الأسمر والنسر المصري، أما النوعان الآخران فهما نسر الأذون والنسر الملتحي وهذا الأخير (النسر الملتحي) ربما انقرض كطائر متناسل بالمملكة. أما النوع الخامس من النسور بالمملكة فهو النسر الأسود وهو من الطيور المهاجرة والتي تصل المملكة في الخريف وتمكث حتى انقضاء فصل الشتاء.
اختلست النظر إلى د. رحماني وجدته ينظر ويحرك رأسه يطلب مني الاسترسال فقلت له سوف أتحدث عن النسرين اللذين شاهدناهما قبل قليل وهما: النسر الأسمر والنسر المصري.
النسر الأسمر Gyps fulvus وهو الأكبر حجماً صاحب الرقبة الطويلة والخالية من الريش، وذو الطوق من الريش الأبيض على قاعدة رقبته، يتناسل في مستعمرات بالمنحدرات الجبلية والصخرية، ولهذا النوع انتشار واسع بقارات العالم القديم وذلك من أوروبا وشمال إفريقيا غرباً إلى الهند شرقاً، وفي المملكة يتناسل بمناطق المنحدرات الجبلية على امتداد جبال السروات وفي جبال أجا وسلمى، وتأتي مجموعات مهاجرة قادمة من أوروبا ووسط آسيا وفلسطين، وهذا النوع غير مهدّد بالانقراض على المستوى العالمي، لكن على مستوى الجزيرة العربية فهو مهدّد بالانقراض، حيث تناقصت أعداده نتيجة التسميم للغذاء ورش المبيدات الحشرية، كذلك القتل المباشر والتكهرب بأعمدة الكهرباء، وتدهور مواطنها نتيجة برامج التطوير غير المدروسة بالمرتفعات الجبلية.
أما بالنسبة للنسر المصري: فهو من الطيور المعروفة عند العرب قديماً باسم الأنُوق ويكنوها بأم جعران وأم قيس وأم كثير، ويطلق بعض البادية عليه بالعليا واسمه العلمي Neophron percnopterus وهو من الأنواع المهدَّدة بالانقراض على المستوى العالمي والإقليمي حسب قائمة الاتحاد العالمي لصون الطبيعية، ويتميز البالغ منها بلونه الأبيض وأطراف أجنحةٍ سوداء وبمنقارٍ ووجهٍ أصفر خال من الريش، وسوادٍ بمقدمة المنقار، ويختلف لون الفراخ في عاميه الأول والثاني، حيث يتميز بلونه الأسود. كان ينتشر في معظم مناطق المملكة، لكنه للأسف الشديد انخفضت أعداد المتناسل منها ولم يبق سوى مجموعة صغيرة في جزيرة فرسان.
ما إن انتهيت من حديثي عن النسرين حتى سمعت ضحكات د. رحماني مسروراً بما سمع وأخذ يردد باللهجة الهندية شاباش.. شاباش! عندها أحسست بغبطة وفرحة عارمة وأنا أسمع كلمات الثناء شعرت فعلاً برابط يشدني نحو التعرًف أكثر على النسور لأنها.. فعلاً.. غير كل الطيور.
... ... ...
* مستشار متفرِّغ بالهيئة السعودية للحياة الفطرية
* عضو هيئة التدريس بجامعة الطائف
* عضو اللجنة العلمية لمذكرة التفاهم للمحافظة على الطيور الجوارح المهاجرة بين إفريقيا وأوروبا وآسيا.
* رئيس اللجنة الإقليمية لمنظمة البيرد لايف إنتر ناشونال لمنطقة الشرق الأوسط