د.فوزية أبو خالد
مانشستر مدينة النسيج وبساط ريح الأحلام..
وصلت مانشستر تلك المدينة المشمرة تاريخياً عن أذرع العمل في صناعة النسيج بالشمال الغربي البريطاني بما أصبحت معه تعرف بمدينة العمال حوالي التاسعة مساء. كان نهاية نهار الأحد وكان آخر يوم في شهر سبتمبر حيث وجدت الخريف يدق معي أبواب المدينة. وإمعانا في دوري الجديد كطالبة بحثت من اللحظات الأولى لوصولي عن موقف ورقم الأتوبيس الذي يذهب إلى محطتي الدراسية القادمة فحملت أمتعتي القليلية على كتفي ومضيت لقدري الجديد. تركت الليل وحفيف الرياح الخفيفة تستر دموعي وبكائي كطفلة ملتاعة في الطريق من المطار إلى سكن الطلاب غير البعيد عن الجامعة. فكانت وحدها الأشجار الشاهقة في العتمة تشاركني شهقاتي, إلا أنه من بين الظلال الكثيفة كانت تلتمع كل عدة الحب والأحلام والدعوات التي وضعها لي أحبائي بالوطن، خاصة أمي وأبنائي وأشقائي وشقيقاتي العشرة في زوادة الرحلة مع ما تيسر من الماء والهواء والخبز البر والمعوذات فأتشجع على دخول هذه المدينة الغريبة بشيء من الثقة والعزيمة والإصرار على تعارف غير مجرد تماماً من حرارة الحماس.
ولم أدرِ حينها كم سيكون ذلك اللقاء التعارفي قادراً على إنتاج صداقات عميقة مع المكان ومع أطيافه من الطلاب والأساتذة والعوائل البريطانية والعربية والهندية والأيرلندية والهولندية واليابانية والصينية إلا عندما التفت في تلويحة الوداع بعد تخرجي إلى ذلك الجمع من الأصدقاء الذي كان بصحبتي إلى المطار بعيون مغرورقة بالدمع.
خمس سنوات اعتذرت فيها عن عام دراسي واحد وامتدت مع العام المستثنى بين بداية خريف 97 إلى نهاية خريف 2001م.
فهل يمكن أن أكتب عن لمحة من رحلتي لأطروحة الدكتوراه دون أن أقترف جريرة اختطاف بحر مائج واختزاله في بضع لقطات لا تخلو من خيانة الكاميرا لمشاهد الحياة.
لا أستطيع ولو مجرد التلميح بتجربة رحلتي العلمية والحياتية بمانشستر دون أن أتوقف عند عدد من الأسماء والأماكن التي تقاسمت معها ملح وخبز أرغفة العديد من المشتركات العقلية والوجدانية والمعرفية والإلهامية في الألم والأمل معاً.
المكتبة وقاعة وجيب الرماد
لا أعرف إلى أي حد تصدق ترجمتي لمسمى السكن الجامعي (Ashburne Hall) الذي نزلت به تلك الليلة وسكنته وساكنتني طيوف وأشباح المقيمين فيه والمنتقلين منه مدة دراستي بـ(وجيب الرماد)، ولكني لا أترجمه حرفياً, لأنني لا أستطيع أن أسمي ذلك المكان إلا ممزوجاً بمشاعري وشاعرية ذلك المكان ووحشته طوال سنوات معيشتي بين جدرانه وفي فيافي غابة الصنوبر والتفاح المحيطة به, والدغل الغامض لمدخله الذي كان يبعث القشعريرة في نفسي كلما سرت فيه ليلاً في طريق العودة من مكتبة (John Rayland›s University library ) أو حين أغامر بالخروج لشراء بطاقات هاتف لمهاتفة من يهفني الشوق لهم في هزيع الليل ممن تركتهم خلفي وهم لا يبتعدون من أمامي من أشقاء الروح وفلذات الكبد.
من المطار إلى عنواني الجديد: Ashburne hall,old hall lane Manchester m 14 6hp,UK
سكنت ليلة وصولي إليه في غرفة حميمة مطرزة جدرانها بالبطاقات والصور والمعالم التاريخية والآثار بالدور الثاني من (آش بيرن هول) نزلت فيها ضيفة بالسكن الجامعي قبل تدبر أمر غرفتي الخاصة على الصديقة طالبة الدكتوراه وقتها في تاريخ المرأة الدكتورة هتون الفاسي، التي فاجأتني بمعرفتها عدة لغات قديمة وحديثة لقراءات المخطوطات الموغلة في القدم لمراجع عملها. لأمر بعد تلك الضيافة بسكنى معظم غرف ذلك السكن تقريباً عبر خمس سنوات مترعات من العمل الضاري على أطروحتي للدكتوراه وعدداً من أعمال الكتابة الأخرى شعراً ومقالات. وما زلت أحتفظ بمفتاح غرفة (WA3) المطلة على بحيرة البط البري في سلسلة مفاتيحي على سبيل التذكار بأبواب الترحال فلا أوصد أي منها مهما استقر بي المقام. ويستطيع أي زائر لمكتبة ذلك السكن العتيق المتين التي يرجع تاريخ تأسيسها فيه إلى العام 1893م أن يرى قصيدتي معلقة على جدار المكتبة إلى اليوم وقد كتبتها آنذاك (قبل عشرين عاماً) باللغة العربية بعنوان «وجيب الرماد» (آشبيرن هول)(Ashburne Hall), وترجمتها إلى الإنجليزية بمشاركة سفيرة الطلاب السعوديين والوطن بمانشستر هتون, كما كان يسميها سفيرنا حينها ببريطانيا الدكتور غازي القصيبي يرحمه الله, وكذلك بمشاركة صديقتنا الهندية البريطانية طالبة الدكتوراه أيضاً حسينة لوكهات, مبروزة على الحائط المقابل بمجرد دخول المكتبة. إلا أن أحداً سواي وقلة من الأصدقاء الذين تساقوا معي صقيع وحرور ذلك المكان لن يستطيع أن يلمح نتفاً من روحي وحنيني وسهري وهسهسة صمتي وطقطقة ضلوعي من ساعات الانحناء الدراسي الطويلة على طاولة الخشب. كما أن أحداً لن يستطيع أن يفشي تلك الأسرار التي كنت أتبادلها من طفولة المساء إلى فجة الفجر مع أصحابي من كُتاب مجموعات الكتب المعمرة والحديثة التي كانت تملأ رفوف تلك المكتبة فيما عدا ما تفعله بي رعونة الكتابة الآن.
يتبع الأسبوع المقبل إن أراد الله.