د. حسن بن فهد الهويمل
مصادر المعرفة تتمثلُ بالمحسوس من مقروء، ومسموع، ومثقوف. مع تفاوت واضح بين كافة المتلقين، تمشياً مع حديث:- [فَرُبَّ مُبَلَّغٍٍ أَوْعَى من سَامِعْ]. وليس شرطاً أن يكون المبَلَّغُ دون السامع في الوعي دونية ذاتية، بمعنى أنَّه أقل وعياً منه، بل إن النوازل كـ[القنابل الضوئية]، تزيل شيئاً من عتمة النص.
فيما يظل السابق مكتفياً بحاجته من النص. وهكذا كان السلف مع [الكتاب]، و[السنة].
[النص] المحكم يحمل أدلة، لا تكشف عنها القراءة، ولا اللغة، وإنما تكشف عنها النوازل، والقدرات الذاتية عند المتلقي.
يقول الله في محكم التنزيل:- {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. فنحن أدركنا القطارات، والسيارات، والطائرات، وكنا بذلك أوعى ممن لم يدركها. فقوله:- {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} دليل على نقص الوعي الذي جاء بحديث التبليغ. وقد تأتي وسائل نقل لا نعلمها نحن، ويعلمها مَن بعدنا، وهي التي - ربما - أرهص لها من {عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ} في قضية الإتيان بعرش [بلقيس].
فالمعرفة التي أحضرت عرش [بلقيس] في جزء من سبعة عشر جزءاً من الثانية تُشْبِهُها القدرة التي اخترعها العلماء حديثاً، وذلك بنقل [الصوت، والصورة] عبر الأثير. فأنت تكلم مَنْ هو في أقصى الأرض، مثلما تتكلم مع من هو بجانبك.
فأي إمكانية تلك التي تنقل الصورة والصوت {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك}.
إنه العلم:- {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. وهذا يعني أن هناك عِلْمَاً كثيراً يجتهد العلماء عبر مختبراتهم ومعاملهم في الحصول على مزيد منه، ويظل المُؤْتَى قليلاً بالنسبة لعلم الله، وسننه الكونية الثابتة: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}.
الخطورة ليست في نوع المعرفة، ولكنها في وعي المتلقي، وخلفيته الثقافية، وعقليته، وتفكيره، وعاطفته، وانتمائه.
الرسالة واحدة، ولكن التلقي مستويات. لقد نزل [القرآن الكريم] بلسان عربي مبين، ليس غامضاً، ولا ناقص الأداء. والمحكم أضعاف المتشابه. والمتشابه يُؤمِن به المكلف على ما هو عليه. ولكن المتلقي يجترح التحريف، والتأويل، والانتحال، وإكراه النص ليوافق هواه:- {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}. فالأهواء الجامحة تُضِل أصحابها على علم، وتلعب دور الآلهة.
فالضلال لا يكون أبداً مصدره الجهل. [العلمُ، والبَيِّنَةُ] يعمقان عند المتعصب الإصرار:- {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}. {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}.
ولما كان الاختلاف أزليًّا ثابتًا {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} قوَّى كُلُّ حزبٍ آلية الجدل عنده، وأبدع الفقهاء [قواعد الفقه] التي يعتمد عليها أئمة المذاهب في استنباط الأحكام. كما وضعوا ضوابط للاجتهاد. وفرقوا بين الاجتهاد المطلق، والمقيد، وما يجوز فيه الاجتهاد، وما لا يجوز، وقالوا:- [لا اجتهاد مع النص]. ومفهوم النص عندهم يختلف عن مفهومه عند [مناهج اللغة] الحديثة، كـ [البنيوية]، و[التفكيكية] وغيرهما.
فـ[النص] عند الفقهاء هو الدليل البرهاني الذي لا يحتمل إلا دلالة واحدة. مثل قوله تعالى:- {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.
للاجتهاد الفقهي آلياته، ومواده. أما الآليات فـ [العقل]، وما أعدوه من [مناهج]، و[قواعد]، و[أدوات]، نحوية، وصرفية، ولغوية.
وأما المواد فـ [الكتاب]، وصحيح [السنة]، و[الإجماع]، و[القياس]، ومنجز العلماء على مختلف العصور. وتلك بمجموعها تشكل [شروط الاجتهاد]. فالاجتهاد ليس حقاً مطلقاً لكل عالم، فضلاً عن المتعالم. وتقحم مضايقه دون تأهيل أدى إلى تفرق الأمة في الدين، وَصَرَف الناس عن مصادرهم النقية، وفطرهم السليمة.
وأخطر شيء عند [العقلانيين] علاقة الدين بالسياسة، والقول بالجمع، والتفريق. وكم سمعنا من يقول: الإسلام رسالة، وليس حُكْماً. ومن يقول:- الإسلام دين، وليس دولة، ومن يقول:- [لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين].
ومن تعقب شطحات [عبدالرازق] و[خلف الله]، و[العشماوي]، و[الطالقاني] يحس بأن هناك عقولاً مطلقة، وليست مقيدة بنص.
والله وحده الذي لا يُسأل عما يفعل، أما المخلوق فإنه مقيد الحرية بالنص، والمصلحة، والمقاصد. [المعتزلة] أداروا النص في فلك العقل. والسلف أداروا العقل في فلك النص، والعقلانية المعاصرة نَفَت النص.
المفكرون العرب استهوتهم العقلية الغربية، بحيث تحرروا من النص، والمقاصد، واتخذوا العقل [شِرْعةً، ومنهَاجاً]. و[حقل العقل] في [مكتبتي] مليء بكتب تدين المفكر العربي الذي أوغل في نقد العقل العربي، لارتباطه بالنص.
المقولة المتداولة عن الملحد [دنيس ديروت 1784]:- [لَنْ يَتَحَرَّرَ الناسُ إِلاَّ عندما يُشْنَقُ آخرُ مَلكٍ بأمعاءِ آخر قسيس، وتصحو الأرض على نفسها، بعد تدمير السماء]. هي المهاد، والمنطلق لكل العقلانيين الماديين، التجريبيين، الذين اتخذوا هذا المنطلق، وإن أخفوه في صدورهم. وقد مهد لذلك ولأولئك [فرانسيس بيكو 1965هـ ]، و[رينيه ديكارت ت 165]، وهما فيلسوفان يمتلكان مساحات شاسعة في الثقافة الفكرية العربية.
بل تبدو بصماتهما واضحة كل الوضوح في [الفكر العربي المعاصر]، أمثال [أبي زيد]، و[أركون]، و[حسن حنفي] الذي وصف الوعي الأوروبي بـ [فم تمساح] مفتوح:- فكه الأعلى عقلاني، وفكه الأسفل تجريبي. والتجريبية مادية، ولمَّا تزل العقلانية المطلقة [ديكارتية] خالصة.
من حق الأوروبيين أن يفروا إلى عقول مفكريهم، ويتخلصوا من إسار النص المزور، والحكم الظالم؛ لأن حريتهم سُلِبَت على يد الإقطاعيين، والقساوسة.
أما الإسلام فقد جاء بِسِمَتين:- {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا}، صدق في القول محفوظ من التغيير، وعَدْل في الأحكام. وذلك ما تفقده الديانة الغربية.
تغليب العقل على النقل من حق الأوروبيين أنفسهم؛ لأنهم حُكموا بالظلم، والخرافة، ولو لم يُحَكِّموا العقل، ويتمردوا على سلطة الكنيسة، والنص المزور، لظلوا في غيهم يعمهون.
القابلون للتبعية استنسخوا تجربة الغرب في الخلوص من هيمنة الكنيسة، وتوسلوا بإطلاق العنان للعقل المجرد، فكانت الكارثة التي أدخلت الأمة الإسلامية ــ والعربية على وجه الخصوص ــ في فوضى مستحكمة هدامة.
العقل يطلق في عالم الشهادة، ويقيد في مصادر التشريع، وعالم الغيب.