ها نحن نُكمل لكم إخواني القُرّاء (ج2) - بعد حمد الله بأن مد في العمر ونسأ في الأجل - للمقال الذي نُشر في العدد (16062) من يوم الاثنين 17/ ذو الحجة / 1437 في صفحة الورَّاق من صحيفة الجزيرة تزامناً مع إطلالة كوكب سُهيل اليماني.
وبالرجوع للحديث عن سُهيل فهو من أجمل الكواكب التي زيَّن الله بها السماء الدنيا وصدق الله القائل في محكم التنزيل {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}: (الصافات: 6) ومن صُنع الخالق في هذا الكوكب الفريد في نوعه وموضعه هو ما أشار إليه جِلَّة من العلماء ومنهم:
ما أورده الأزهري بقوله: إن هناك كوكبين يطلعان قبل سُهَيل متشابهين في المرأى، فإذا طلع أحدهمَا ظُنَّ أنه هو بعينه، قال: وحدثنا أبو عمرو بن العلاء قال: يطلع كوكب قبل سهيل يقال له ثور أبيض يسمى المحلف لأن الناس يشكون فيه حتى يتحالفون أنه سهيل، وهو ليس بذلك. قلت:
غفر الله لعالمنا اللغوي أبا منصور الأزهري فقد أجاد وأفاد، فما ذكره مطابقاً لما نعرفه اليوم تام المطابقة فما زال عند ربعنا أهل البادية هذا التشابه فيسمون ذلك بسهيل الكاذب للتفريق بينه وبين سهيل الحقيقي كذلك وصفهم أيضاً بالفجر الكاذب والفجر الصادق. ومن قُدرة الله عزَّ وجلَّ ما أخبرنا به السُّهيلي الخثعمي في كتابه الروض الآنُف أن هذا الكوكب لا يُرى بالأندلس ولا بخراسان لانخفاضه، إلا في جبل مُطل على كورة (مالقة) بالأندلس ولهذا سُمي هذا الجبل بسُهيل وإليه نشأ عالمنا الخثعمي.
ساق لنا ابن المجاور في كتابه صفة بلاد اليمن ومكة المعروف (بتاريخ المستبصر) بقوله «وينقطع جميع مياه الأرض عند طلوع سهيل، ولم تصح دباغة الأَدِم (الجلود) إلا به وقال ربان بن جبير: إذا طلع سهيل نقص ماء البحر أربعين ذراعاً. وأما وَرْد الكَادي فلم يكن في سائر المشمومات ألذ منه رائحة ولا أطيب منه». انتهى كلامه.
وفي العصر الحديث أورد ابن حميد أحد مشايخنا في كتابه الفرقان في بيان إعجاز القرآن بقوله «وأما سهيل فهو أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة مرّة فسبحان عظمة خالق هذا الكون فهناك خط لا يتعداه ومركز لا يتجاوزه قال تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53).
جاء في الأنواء والنجوم للعجاجي أنه ثاني ألمع نجوم السماء بعد الشِّعرى اليمانية التي يسميها العامة المِرْزَم. أطنب في ذكره غير واحد من الشُّعراء والرُّجاز العرب وجاء في أمثالهم وأقوالهم فهاضت نُفوسهم وتفتقت قرائحهم وتفننوا في بدائع تشبيهاتهم وتركيبات وصفهم وتخيلاتهم لظلمة الليل وروعته للكون العجيب فسبحان الذي أحسن كل شيء خلقه .
ولعل من الشواهد الشعرية لمراقبة هذا الكوكب الوضَّاء ما جاء على ألسنة بعض الشعراء العرب: فما أجمل ما وصفه لنا البُحتري إذ يقول:
كأنّ سُهيلاً شخص ظمآن جانح
من اللّيل فى نهر من الماء يكرع
قال المتلمس وهو جاهلي لم يُدرك الإسلام:
وقد ألاح سُهَيْل بعدما هجعوا
كَأَنَّهُ ضرم بالكف مقبوس
يقول عبد الله الأَكْلُبي المشهور بابن (الدُّمينة):
إِذا ما سُهَيْل أبرزته غمامةٌ
على منْكب من جَانب الطّورِ يلمحُ
وقال الراجز:
أما تَرَى حيثُ سهَيْلٍ طَالِعَا
نجمًا يضيءُ كالشِّهابِ لَامِعَا
ولقربه من الأفق تراه أبدًا كأنه يضطرب ويتوقد مع السحر.. يقول الشاعر:
ولاحَ لِلعَيْنِ سُهَيْلٌ بِسَحَرْ
كَشُعْلةِ القابِس تَرْمي بالشَّرَرْ
يصف الشاعر كوكب سهيل بقوله:
ولاح وجهُ سهيلٍ فهو جوهرة
حمراء قد ركبتْ في وسط إكليل
أقول:
ما أبدع قول الشاعر في هذا التشبيه بالأخص لأن حقيقة من شاهد هذا الكوكب وشِدة توقده ولمعانه واشتعاله يجزم يقيناً بصحة ما ذهب إليه الشاعر.
نجم جنوبي منفرد ومن ذلك ما قاله الشاعر:
وسَهِرتُ أرقبُ من سُهيلٍ خافقاً
متفرداً فَكَأَنَّهُ قلبُ الشجي
وقول الآخر:
أراقب لمحا من سُهَيْل مطالبي
وأرصد برقاً من أمانيّ أَومضا
وقال الثاني:
ألا حبَّذا نجدٌ وطيبُ ترابِها
وغلظةُ دنيا أهلِ نجدٍ ولينُها
نظرتُ بأعلى الجهتَيْنِ فلم أجدْ
سِوى مِنْ سُهيلٍ لمحةً أستبينها
وقال أحدهم:
إِلى كم أُبيد البيدَ في طلب الغنى
وأَقربُ رزقي فوق نجمِ سُهَيْلِ
وقال ابن المعتز:
وَقَدْ لاحَ للسَّارِي سُهَيْلٌ كَأَنَّهُ
عَلىَ كُلِّ نَجْمٍ فِي السَّماءِ رَقيِبُ
قال مالك بن الريب التميمي يرثي نفسه ويصف قبره وكان قد خرج مع سعيد بن عفان أخي عثمان لما ولي خراسان، فلما كان ببعض الطريق أراد أن يلبس خفه فإذا بأفعى فيه فلسعته فلما أحس بالموت أنشأ يقول:
وَلما تراءت عِنْد مرو منيتي
وخل بهَا جسمي وحانت وفاتيا
أَقُولُ لأصْحابي ارْفعوني لأنّني
يَقِرّ بِعَيْني أن سهَيلٌ بَدَا لِيا ويَقُول ذُو الرمة في توقد سهيل وتشبيه له بالبقر الوحشي:
إِذا سُهَيْل لَاحَ كالوقود
فَردا كشاة الْبَقر المطرود
وقال أيضاً:
وَقد لاحَ للساري سُهَيلٌ كأنّه
على أخرَياتِ الليلِ فَتْقٌ مشهَّرُ
أَي صُبح مَشْهُور.
وفي رواية أخرى:
وَقد لَاحَ للسَّارِي سُهَيلٌ كأنَّه
قريعُ هِجانٍ دُسَّ مِنْهُ المساعِرُ
وقال الثالث:
تلالأ واستقل لها سهيل
يلوح كقمة الجمل الفدير
قال الشاعر في التمني وانفراد سهيل عن سائر الكواكب:
ألا ليت أني منكم حيث كنتم
مكان سهيل من جميع الكواكب
وقال ابن طباطبا:
كأنما لمع سهيلٍ سنا
نارٍ على رابية يثقبُ
وقال عمر بن لجأ يجيب جريراً:
أراقبُ مِرْزَمَ الجوزاءِ حتى
تَضمّنَهُ منَ الأفُقِ السجودُ
وعارَضَ بعد مسقطهِ سهيلٌ
يلوحُ كأنهُ بدمٍ طريدُ
وقال الرابع:
ولاح سهيل عن يمينٍ كأنه
شهاب نحاه وجهة الريح قابس
قال النَّابِغَة الجَعْدِي يصف ثوراً ويشبهه بسُهَيل لأن الكواكب تزُول عنهُ ويبقى مُنفرداً لَيس معه شَيء منهَا. ويُقال: العَذوب الذي بَات وليس بينه وبين السَّماء ستر قال: وذلك العاذب.
فباتَ عَذوبا للسماء كأنّه
سُهَيلٌ إِذا مَا أفردَتْه الكواكِبُ
وقال الشاعر يذكر ناقة لها هوى ناحية اليمن:
كأن سهيلاً أمّها وكأنها
حليلة وخم جنّ منه جنونها
ومن الطرائف والنوادر قول أحدهم ولربما أنه لم يعد يحتمل شدة حَمَارة القيظ ويرجو برد ليل سهيل الذي أخلف ظنه وخيّب آماله في أول طلوعه:
جاء سهيل بالحرور والفزع
قد كنت أرجو نفعه فما نفع
وهنا يمثّل الشاعر الصورة التركيبة والتي يتقدم فيها سهيل النجوم كتقدم الإمام للمأمومين في الصلاة فيقول:
كأن سهيلاً والنجوم وراءه
صفوف صلاةٍ قام فيها إمامها
وهذا الشاعر البدوي يصف ابلاً عنده:
وردناه فِي مَجْرَى سُهَيْلِ يَمَانِيّا
بِصُعْرِ البُرَى من بَين جُمْعٍ وَخادِجِ
ومن أشعار العرب التي ذهبت مضرب المثل في الاختلاف بين شيئيين قولهم:
أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا
عَمْرَكَ اللهِ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ
هِيَ شَامِيَّةٌ إِذَا مَا اسْتَهَلَّتْ
وَسُهَيْلٌ إِذَا اسْتُهِلَّ يَمَانِ
ويزعم العرب من أكثر موت البهائم يكون عند طلوع سهيل
وكان أضرّ فيهم من سهيل
إذا أوبى، وأشام من قدار
وقال المحبي قالت العرب ولا تقع عين بعير على سهيل إلا مات من حينه.. وقد أشار الى ذلك أحدهم:
لا تحْسبي إبلي سُهَيلاً طالعاً
بالشامِ فالمرئيُّ شُعلَةُ قابِسِ
وقال ابن أفنَوَيه الصنعاني من علماء الحديث:
أقول وطرْفي للنجوم مسامرٌ
أراقب منها طالعاً بعد غائبِ
ولاح سهيلٌ في السماء كأنّه
على مَرْقَبٍ يُزْجي صفوف كتائب
ومن الشعر النبطي المعاصر ما أورده الشيخ العالم محمد بن ناصر العبودي في معجمه الأصول الفصيحة: قال الدوسري ناصر بن عنبر:
نجعت انا بالذود وأجنبت بحدور
يسار نجم سهيل والا يمنها
وقال ناصر بن ضيدان من حرب:
البدو شدوا يا عوض للمنادي
دنوا الثقلات الرحل كل جودي
شافوا سهيل ولا على الماء قعادي
يبون نجد وصنتوا للرعودي
وقال أحد أبرز شيوخ العرب المعاصرين الشيخ والفارس راكان بن حثلين:
خليت نجم الجدى ورك المطيه
وافرق نحرها عن سهيل اليماني
وقول الآخر:
يا بو فهد هبت هبوب البراد
وسهيل قمنا من جنوب نشوفه
ومن أمثالنا العاميّة السائرة في بيشة (إذا طلع سهيل فلا تأمن السيل) وأصل المثل عند العرب قديماً، إذ تقول (إذا طلع سهيل خِيف السّيل، وبرد اللّيل، وامتنع القيل، ولام الحوار الويل).
ومن أمثال العرب القديمة أيضا قولهم:
إذا طلع سُهَيلٌ رُفِعَ كَيْلٌ ووُضعَ كَيْلٌ، أي: ذهب الحَرُّ، وجاء البرْدُ.
مثل: يُضرب في تبدُّل الأحكام أو الأحوال حدّثني أحد شيوخ البادية في منطقة بيشة وأبرز الرُّواة العارفين بعلم الأنواء والنجوم فائز آل مرو عن نجم سهيل بالحساب أربعة هي:
الطرف - الجبهة - الزبرة - الصرفة
وأمدَّني بما يحفظه من مأثورات لغوية وسجلت عنه المثل القائل (ما غاب من نجوم سهيل أبرد للمسّ) وهو أن كلَّما غاب أحد النجوم الأربعة الآنفة الذكر زادت برودة الأرض بمشيئة الله، المثل السابق: في زوال أحد الأعباء والمهام المناطة على الشخص.
** **
- عبد الرحمن المقيطيف