أتْعَسُ النَّاسِ هُمُ الَّذينَ يَعْبُدونَ الفُلوسَ، الَّذينَ يَتَوَهَّمونَ أنَّ الفلوسَ قادِرَةٌ عَلى أنْ تَشْتَريَ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، تَشْتَري لَهُمُ السَّعادَةَ وَالحُبَّ وَالصِّحَّةَ وَالشَّبابَ، ثُمَّ يَكْتَشِفونَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّ السَّعادَةَ الحقِيقِيَّةَ وَالحُبَّ الحقيقيَّ وَالصِّحَّةَ الكامِلَةَ وَالشَّبابَ الحقيقيَّ لا تُشْتَرى بِمالٍ. نَعَمْ! يُمْكِنُكَ أنْ تَشْتَري مِنْ السُّوقِ السَّعادَةَ الفالصو وَالحُبَّ المُزَيَّفَ وَالصِّحَّةَ الوَهْمِيَّةَ، وَلَكِنَّ أمْوالَ الدُّنْيا كُلَّها تَعْجَزُ أنْ تَشْتَري قَلْبًا أوْ تَزْرَعَ حبًّا أوْ تَصْنَعَ هناءً!
أعْرِفُ كَثيرينَ بَذلوا شَبابَهُمْ وَصِحَّتَهُمْ لِيَجْمَعوا الفلوسَ؛ ثُمَّ عاشوا طولَ عُمْرِهِمْ يُنْفِقونَ كُلّ ما كَسَبوه لِيَحْصلوا عَلى السَّعادَةِ فَحَصَلوا عَلى الشَّقاءِ، أوْ لِيسْتَرِدّوا الشَّبابَ فَدَهَمَتْهُمْ الشَّيْخوخَةُ، أوْ لِيَحْصلوا عَلى الصِّحَّةِ فَهَزَمَهُمُ المَرَضُ العُضالُ!
لا أنْسى مِنْ سَنَواتٍ طَويلَةٍ مَنْظَرَ الشَّابِّ (أنور وَجدي) المُمَثِّلِ المُبْتَدئ في الفِرْقَةِ القَوْمِيَّةِ وَهُوَ يَقولُ لي إنَّ أمْنِيَةَ حَياتِهِ هِيَ الفلوسُ.. فلوس، فلوس، فلوس كَثيرةٌ!
كانَ يَتَوَهَّمُ أنَّه بِالفلوسِ يَسْتَطيعُ أنْ يَكونَ أسْعَدَ رَجُلٍ في العالَمِ لِمُدَّةِ مائةِ سَنَةٍ! كانَ وَاثقًا أنَّه قادِرٌ بِالفلوسِ أنْ يُحَقِّقَ كُلَّ ما يَتَمَنَّاهُ. أنْ يَجْعَلَ الأمانيَّ وَالأحْلامَ وَالدُّنْيا تَسْجُدُ صاغِرَةً بَيْنَ يَدَيْهُ. وَبَعْدَ عِشْرينَ سَنَةً أعْطاهُ اللهُ الفلوسَ، أضْعافَ ما تَمَنَّى مِنْ فلوس، وَلَكِنَّهُ أخَذَ مِنْه الصِّحَّةَ وَالشَّبابَ وَالأحْلامَ! وَقال لي وَهُوَ يَبْكي: «لَيْتَني ما طَلَبْتُ مِنْ اللهِ الفلوسَ؛ لَيْتَني طَلَبْتُ أنْ أعيشَ مائةَ سَنَةٍ فقيرًا آكُلُ الفولَ المِدَمِّسَ وَأتْشَعْبَط عَلى سُلَّمِ التَّرامِ حَتَّى لا أدْفَعَ ثَمَنَ التّذْكَرَةِ!» وَلَمْ يَعْرِفْ أنور قيمَةَ الصِّحَّةِ إلَّا عِنْدَما فَقَدَها. وَلَمْ يَكْتَشِفْ أنَّ الفلوسَ عاجِزَةٌ أنْ تَشْتَري لَهُ أيَّ شَيْء إلَّا عِنْدَما أصْبَح أغْنى فَنَّانٍ في مِصْرَ وَعَرَفَ أنَّه لا يَسْتَطيعُ أنْ يُضيفَ - بِكُلِّ أمْوالِهِ- يومًا وَاحِدًا إلى عُمْرِهِ المَخْطوفِ!
وَرَأيْتُ (عبد الحليم حافظ) وَهُوَ يَلْعَبُ بِالذَّهَبِ، رَأيْتُهُ شَقِيًّا تَعيسًا مُعَذَّبًا مَحْسورًا مَحْرومًا؛ لأنَّه لا يَسْتَطيعُ أنْ يَمِدَّ يَدَهُ إلى طَبَقِ الطَّعْمِيَّةِ وَيَقولُ لي هامِسًا: «مَنْ يُعطيني هَذِهِ وَيأخُذُ كُلَّ أمْوالي»!
ورأيتُ (أمّ كلثوم) بعد أنْ كَوَّنَتْ ثَرْوةً ضَخْمَةً وَهِيَ تَقولُ إنَّها مُسْتَعِدَّةٌ أنْ تَدْفَعَ نِصْفَ ما تَمْلِكُ لِتَأْكُلَ بَيْضَةً وَاحِدَةً مَرَّةً كُلَّ يَوْمٍ! فَقَدْ مَنَعَها الأطِبَّاءُ سَنَواتٍ طَويلَةً مِنْ أكْلِ البَيْضِ الَّذي كانَتْ تَعْشَقُهُ وَتَهْواه!
وأذْكُرُ دائمًا أنَّ (أمّ كلثوم) كانَتْ تَقولُ لي دائمًا إنَّ أيَّامَ فَقْرِها الشَّديدِ في قَرْيَتِها كانَتْ أسْعَدَ أيَّامِها عِنْدَما كانَتْ أكْبَرُ أمْنِيَةٍ في حِياتِها أنْ تَأكُلَ طَبَقَ مَهَلَّبِيَّة، وَإنَّها كانَتْ تَتَصَوَّرُ أنَّ الفَرْقَ الوَحيدَ بَيْنَ فَقْرِها المُدْقعِ وَبَيْنَ ثَراءِ السُّلطانِ (فؤاد) سُلْطانِ مِصْرَ في تِلْكَ الأيَّامِ أنَّ السُّلْطانَ كانَ يَأكُلُ مَهَلَّبِيَّة في الصَّباحِ، وَمَهَلَّبِيَّة في الغَداءِ، وَمَهَلَّبِيَّة في العَشاءِ!
وكانَتْ (أمّ كلثوم) تَتَّجِهُ بَعْدَ عَشائها المُتواضِعِ إلى السَّماءِ وَتَقولُ: «يا رَبّ خُذْ نِصْفَ عُمْري، وَأعْطِني طَبَق مَهَلَّبِيَّة!»
وَأعْطاها اللهُ عُمْرًا، وَأعْطاها رِزْقًا تَشتري مَلايين أطْباقِ المَهَلَّبِيَّة! وَلَكِنَّهُ لَمْ يُعْطِها الصِّحَّةَ لِتَأكُلَ المَهَلَّبِيَّة في الصَّباحِ وَالظَّهَرِ وَالمَساءِ.
- (مصطفى أمين)