ميسون أبو بكر
لن تكون كلماتي عن المدن بعذوبة «سيرة مدينة» لعبدالرحمن المنيف أو برشاقة حروف سمير عطاالله عن مدن من الذاكرة وأخرى بائدة راح وهجها وبقيت مجرد صورة تتلألأ في ذاكرة تنثرها الحروف أو الكلمات، لكنني بصدد الحديث عن مدن يمكنك أن نعقد معها صداقة وعلاقة حميمية ومدن أخرى تغادرها دون أن نحمل منها أي ذكرى قد تصافح روحك أوتعلل خاطرك.
المدن كالنساء لها جمالها وجاذبية وسحر تنفرد كل مدينة بما لا تشبهه سواها، فمدن تسورها الجبال الشاهقة وتغطي أرضها سجادة خضراء من العشب الأخضر والورود الملونة، ومدن يطوقها البحر، وتحدها المرافئ التي لا تهدأ سفنها ولا ينام بحارتها، وهناك مدن تداعب الريح حبات الرمل الذي يطوقها فترسم على تلاتها الرملية موجات من الذهب الأصفر، تقرع النوافذ كلما عوت الريح.
البشر من مكونات المدن، يحملون ملامحها، ويشكلون ثقافتها بمزيج من ثقافاتهم وطقوسهم، ويلونونها بألسنتهم، هناك مدن ذات هوية واحدة وبلاد أخرى تكاد لا تعرف لها هوية لأنها حديثة العهد كونتها أطياف من البشر آتين من كل صوب.
وهناك عواصم لها طقوسها الخاصة ولها طابعها الذي لم تتخل عنه رغم عواصف التقنية ووسائلها، فتجد مثلاً كابينة الهاتف الحمراء في لندن كل بضعة أمتار، الهاتف التقليدي الذي تغذيه بالعملة النقدية ليحمل صوتك للآخر. وحديقة ( الهايد بارك) التي مازالت رغم فضاءات التقنية ملتقى عائلي وملتقى للعشاق والزائرين.
باريس مرصوفة شوارعها بالمقاهي الباريسية التي تلونها أقراص الماكرون وتفوح منها رائحة القهوة معشوقة الجميع ( أكاد أجزم)، وتلك المباني الفرنسية تصمد أمام عوامل الزمن لتحمل طابع المدينة قبل عقود بقوانين صارمة تفرضها الدولة على أصحاب المباني من متاجر وفنادق لإعادة ترميمها وصيانتها بشكل دوري.
وحين تلوح ميلانو أتذكر القطارات ومحطاتها والرسومات على الجدران (فن الجرافتي) الذي صار فناً يميز العديد من المناطق الأوروبية، وتعبيراً توارثه أبناء تلك المدن كما تلك البيوت الكهلة التي على جانبي محطة القطار تكافح الزمن.
ولا يمكنني إلا أن أعرج على جنيف وأذكر بحيرتها التي بين الفينة والأخرى تتحف زائريها بكرنفالات شهرية وسنوية لها طقوسها.
هناك مدن منحها زوارها طابعهم الخاص مثل (ديفون) التي تبعد عن جنيف عشرين دقيقة بالسيارة والتي يمكنك أن تقر بطابعها السعودي الكويتي نظراً لعدد العائلات المعروفة من البلدين التي تملك منازل ومزارعاً فيها.
هناك مدن تصادقها، وتعود لبرها بزيارتها والحديث عنها وعن أجمل الذكريات والأماكن والحكايا.. مدن تسكنها لأيام فتبقى أسيرة ذاكرتك عمراً، وهناك مدن تستعجل الرحيل عنها ملقياً بذكرياتك فيها في غياهب الإهمال.
للحديث عن المدن وقفة أخرى..