د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** المساحة المفتوحة تمنحنا فضاءً ذهنيًا للتفاعل مع الأمكنة والأزمنة والشخوص والنصوص؛ فمُساكنو البحر والصحراء لا يحسبون المسافة بالقدم والمتر، ودارسو التأريخ لا يفكرون باليوم والأمس، وناقدو الإبداع لا تعنيهم المناسبة والدلالات المباشرة، وهل نحن إلا أجواؤنا الأسْرية والمجتمعية والثقافية؛ نتخلق وَفق شروطها، ونستجيب -غالبًا - لإملاءاتها، ونعيا حين نفكر بتطويعها لنا أو تفسيرها حسب أهوائنا أو الخروج على تعاقداتها كما اعتقاداتها.
(2)
** يبالغ بعضنا في إقحام ذاته في إنجازاته ويعدّها الأساس في ماضيه وآتيه مغفلًا الظرف الذي صنعه والمساحة التي أُتيحت له والزمن الذي عاشه والناس الذين تقبلوه، ونَعجب حين نقرأ بمنظار اليوم معايير الأمس؛ فقد يُمجَّد رمزٌ بالرغم من عاديته لأن وقته أذن له بالتفوق بين من هم أقلُّ منه أو لم تخدمهم الحياة كما خدمته، وهو ما سيُقال غدًا عن زمننا وبعد غد عن أزمنةٍ سبقته، وهكذا؛ ليطل الاستفهام: أيهما الأهم: الشخص أم النص؟وما علاقة داخلهما بمتغيرات خارجهما؟ ومن هو الفاعل أكثر في تكوينهما كما تدوينهما؟
(3)
** افترضت نظرية العالم السويسري كارل يونغ 1875-1961م - وهو مؤسس علم النفس التحليلي - أن «غوتة» ليس من أبدع مسرحية «فاوست»، بل المسرحية أبدعت غوتة، وعلق «حليم بركات 1933- في كتابه (غربة الكاتب العربي ص 206) متسائلًا: هل جبران أبدع «النبي» أم النبي هو المبدع؟ وهل أدونيس أبدع مهيار الدمشقي أم مهيار أبدع أدونيس، وهكذا في الثورتين الجزائرية والفلسطينية والدور المتبادل مع محمد ديب وكاتب ياسين وغسان كنفاني وإميل حبيبي ومحمود درويش...؟!
(4)
** تتوالد حول هذه التساؤلات أفكارٌ تعيد قراءة السائد كي تنفتح الآفاق أمام محاكمة «الشخوص والنصوص» بعيدًا عن وسائط الاستقطاب أو مبررات الإشهار، وعلى الرغم من تأثير التأريخ بما يكتبه مؤرّخو كل زمن عن مُزامنيهم بما يتجاوز أو يقل عن قيمهم الحقيقية فإن المحاكمات لا تقف عند مسوغاتٍ مجردةٍ دون إسنادٍ موضوعي؛ فهل نستطيعُ التمييز بين المحيط الصانع والرمز المصنوع؟ والاستفهامات تتوالى؛ فهل كان الرموز بحجم ما نالوه من تقديس أو أُركسوا فيه من تدنيس؟ وهل روادنا المجتمعيون والعلميون والمبدعون والإعلاميون يستحقون ما قيل عنهم إجلالًا أو إقلالًا؟ وهل يكفي السبق التأريخي لإنصافهم والانتصاف منهم؟ ومتى نضع الأعلام في موازينَ عادلةٍ لا ترقى بهم فوق الذرى ولا تنزل تحت الثرى؟
(5)
** ليس يسيرًا أن نجد إجابةً عن هذه «الاستفهامات»؛ فالمتغيراتُ لا تأذنُ بنقاش يومٍ ما تزال صحائفه تسجَّل وتسجِّل ولكنها قد تجعلنا قادرين على إعادة النظر في حكاياتٍ استقرت كي لا نقف عند بوابة وحيدة نلتمس منها خروج متبوعين وتابعين «سائرين ومسايرين» حتى حين.
(6)
**الواجهةُ وجوه.