م. بدر بن ناصر الحمدان
يجمعني لقاء شهري منذ سنوات مع زملاء دراسة وعمل أغلبهم مخططون ومصممون عمرانيون، أصبح مع مرور الزمن أشبه بصالون افتراضي يحتضن نقاشات حول مواضيع العمارة والتخطيط وقضايا المدن، وفي كل مرة نحرص على أن يكون هذا اللقاء في فضاء مفتوح يعج بالمقاهي وحركة الناس، لذلك غالباً ما يؤول بنا المطاف إلى شارع التحلية في العاصمة الرياض لأنه يكاد يكون المكان الأكثر قدرة على الإيفاء بهذا النمط من التفاعل بين الإنسان والمكان.
في كل مرة نلتقي يعود بنا الحديث - على سبيل المثال - عن فكرة تحويل شارع التحلية إلى «جادة للمشاة والدراجات «وإلغاء حركة السيارات العابرة والتعامل مع الشارع كمحور سياحي تقام فيه فعاليات يومية على مدار العام. حينها لا تلبث أن تظهر آراء معارضة وبشدة وأخرى تعظم من تبعيات هذا القرار وانعكاسها السلبي على شبكة الطرق ونقل الحركة وتأثيرها على استخدامات الأراضي وكفاءاتها.
شخصياً، لدي «هوس عمراني» بتحويل الشوارع إلى جواد للمشاة والدراجات كونه يعد التوجه الأمثل لرفع مستوى تفاعل الناس مع فراغاتهم العمرانية وفهم مدينتهم بأسلوب وظيفي فاعل ومقنن من خلال شبكة محاور متصلة ومتدرجة من حيث العرض والطول ومستوى الأنشطة، ولأنه لم يعد من المقبول أن نكرر سيناريو سيطرة السيارة على التركيبة العمرانية للمدن السعودية.
على أية حال، يمكننا قراءة الموضوع من زاوية أخرى، فحين تطلب تنفيذ مشروع قطار الرياض إغلاق شوارع محلية وثانوية وأخرى رئيسة وشريانية أو تغيير في مساراتها فترة طويلة من الزمن قدمت إدارة المدينة حلولاً عملية وبدائل حركة بنفس مستوى الكفاءة رغم أنها كانت مؤقتة، وهذا يثبت فرضياً أنه بالإمكان الاستغناء عن تلك الشوارع وتغيير وظائفها العمرانية تدريجياً ومنح المشاة والدراجات والأنشطة الحياتية الأولوية إذا ما أردنا تغييراً حقيقياً في بوصلة بناء مدن تحترم الإنسان.
على مستوى العالم تصنف جواد المشاة كأهم الأماكن التي تجتذب الناس داخل المدن خاصة تلك القريبة من مركزها التجاري سواء كانوا سياحاً أو سكاناً محليين، حيث لا يمكن التعرف على تفاصيل أي مدينة وعيشها دون التجول في أروقتها ولقاء سكانها والتشكل في مقياسها الإنساني الطبيعي، وهذا حتماً لا يتحقق سوى بوجود فضاءات عمرانية مؤهلة.
لطالما الهمتني تجربة «كوبنهاجن» في نموذج إدارتها لترسيخ ثقافة الدراجات وقيمها الإيجابية وأسلوب مواجهتها لتعارض المصالح خاصة في فترة الستينيات وإصرارها آنذاك على اتخاذ قرارات حاسمة أسهمت في إنشاء بنية تحتية متكاملة من المسارات المخصصة للدراجات، إلى أن بات ركوب هذه الدراجات اليوم الأسلوب المفضل للنقل لدى سكان كوبنهاجن الذين يقطعون مسافة مليون و400 ألف كيلومتر يومياً باستخدام الدراجة، إذا ما علمنا أن 41 % منهم يستقلون الدراجات في رحلاتهم من وإلى العمل أو المدرسة.
عملياً، تبدو العاصمة الرياض أكثر المدن السعودية قدرة على إحداث ذلك التغيير واستعادة الحياة للأماكن المفتوحة وتكييف المجال الحضري لخلق مناطق للمشاة والدراجات أكثر جاذبية، كونها تمتلك الخبرة والتجربة الطويلة على مستوى الإدارة المكانية ذات الكفاءة لاتخاذ مثل هذه القرارات التي من شأنها تقديم نموذجاً فريداً في أسلوب التعامل مع بيئة مبنية قائمة ومعقدة، فهي مدينة عملاقة، ولا خيار لديها سوى الذهاب إلى الأمام.