عبدالعزيز السماري
تعتبر بعض الدول العربية في طور حرب أهلية طاحنة، وكان ذلك متوقعاً بعد عصر ما أطلق عليه بثورات الربيع أو الخريف العربي، فالحكم الدموي والدكتاتوري قبل ذلك أفرز حالة من الكبت والغضب في العقول، وما أن زالت تلك الحالة بدأت ثورة الانتقام من الماضي، وهو ما يحصل في بعض البلاد العربية.
فلسفة الدولة من أكثر الأمور التباساً في العقل العربي المعاصر، وهو ما قد يفسر الحروب الطاحنة على الأرض، وبيت القصيد أن هناك مجموعات تطالب بطائفية الدولة كما يحصل في اليمن والعراق وسوريا وليبيا، أي أن يتم صبغ الدولة بأفكار الطائفة التي تسيطر على الوضع في الدولة، ثم إجبار المواطنين على اتباع تعاليمها.
تكمن أزمة الحكم الديني في أن المفهوم الطائفي المعاصر لنظرية الحكم شمولي بحت، أي أن الفتاوي والمرجيعات الدينية تكون بمثابة القانون الإلهي الذي لا يتغير أبداً، ولو طبقت بعض الدول العربية فتاوي علمائها، لعاشوا في عزلة إنسانية لا مثيل لها في التاريخ، وهو ما قد يبرر نظرية الصراع عند معارضيهم، وإلى تحييدهم في أمور السياسة.
قد حدث شيء من ذلك في تاريخ أوروبا وأمريكا الشمالية، فالنظرية الدينية السياسية التي تقوم على هيمنة عنصر وفكر ديني محدد تم تجاوزها بالقوة، وكان ذلك سبباً لقيام الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية، وتم بالفعل فرض دستور مدني لا يعترف بالفروقات على أسس دينية.
على سبيل المثال، النموذج الفرنسي كرّس قانوناً صارماً للفصل بين الدين والدولة، وذلك كمحاولة لتأمين الحرية في المؤسسات العامة، وخاصة المدارس، من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية، كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، دعا جيفرسون لتأمين جدار الفصل بين الكنيسة والدولة، حين قدم في التعديل الأول للدستور، ضمان حرية ممارسة الدين، وتكريس مبدأ أن هناك لن تكون مؤسسة رسمية للدين.
هناك من يحاول أن يقنع العوام أنه لا يوجد مرجعية دينية عليا في الطائفية، وأن الحكم في الإسلام مدني، ولكن ذلك غير صحيح، فالوضع في إيران يكشف مدى تحكم الفقيه بالوطن والسياسة، وهو ما يقود البلاد في الوقت الحاضر إلى الهاوية، فقد أدى ذلك إلى الإنقسام داخلياً وخارجياً، وقبل ذلك إلى هضم حقوق الطوائف والأثنيات الأخرى في البلاد.
التفسير التاريخي لظهور المدنية والتعددية يعود إلى تلك الرغبة الجماعية في البحث عن السلام في المجتمعات، وقوامه أن يكون الناس متساوين تحت مظلة القانون، وأن يتم احترام الاختيارات الفردية، وسيؤدي ذلك بالضرورة إلى تعدد وجهات نظر في المجتمع الواحد، على أن لا تفرض الدولة على مواطنيها مفهوماً طائفياً محدداً من الخير، ولكن أن تبقى محايدة بين مختلف الطوائف، وهو ما يجعل من الدولة سلطة محايدة، ويعيش الناس من خلالها بلا خوف رلا تفرقة.
الإشكالية أن الأزمة لازالت في أوجها في الواقع العربي، وهناك من يحاول أن يعيد الخطاب الطائفي الفوقي الذي يفرض أفكاره حول الحياة وتفاصيلها، بينما هم يدركون أن الدولة الحديثة لا تقوم على فلسفة العداء لكل من يخالف معتقداتها في الداخل والخارج، ولكن على فلسفة القانون الذي لا يفرق الناس على أسس طائفية أو عرقية أو إقليمية.
ختاماً هناك أمر لابد من الوعي به، وهو أن مدنية الدولة لا تعني الإنسلاخ من الهوية والماضي كما يروج له دعاة التطرف، ولكن تعني أن تكون الدولة سلطة محايدة في الداخل، وأن تكون المبدأ الذي يتفق عليه الجميع، مهما اشتدت درجات الاختلافات، ولعل ذلك يعني على وجه التحديد: ماذا يعني أن تكون وطنياً.