د.عبد الرحمن الحبيب
انهار الاتحاد السوفييتي دون حرب، وانتهت الحرب الباردة بانتصار أمريكي مريح وناعم.. في تلك الأجواء صاغ جوزف ناي من جامعة هارفرد مفهوم «القوة الناعمة» وخصص له كتاباً عام 1990؛ ثم طوَّره عام 2004 بكتابه «القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية»؛ ذاكراً أنه عِوضاً عن استخدام قوة الإكراه العسكرية يمكن لأمريكا الاعتماد على القوة الناعمة لتعزيز موقعها القيادي في العالم عبر ثلاثة مجالات: ثقافية، إيديولوجية، مؤسسية.. وأنه في عصر المعلومات: «المصداقية هي المورد الأكثر ندرةً». حالياً، في عصر الإنترنت يتم إهدار المصداقية باسم حرية التعبير، والقوى الصلبة تتزايد في المشهد العالمي، فما الذي تبقى للقوى الناعمة وما مستقبلها؟
بداية، القوة الناعمة يُقصد بها القدرة على الجذب والإقناع عبر الثقافة والقيم السياسية والسياسات الخارجية، بدلاً من الإكراه بالقوة الصلبة (العسكرية أو الاقتصادية). وفي السنوات الأخيرة، راج استخدام مصطلح «القوة الناعمة» في الشؤون الدولية كعنوان للتأثير على الرأي العام العالمي وتغييره عبر قنوات غير مباشرة نسبياً وجماعات الضغط والمنظمات السياسية وغير السياسية (اجتماعية، ثقافية، فنية..). في عام 2012 أوضح ناي أنه مع القوة الناعمة «أفضل الدعايات ليست دعاية»، فبدلاً من المباشرة الفجَّة يمكن تضمين أفكار وقيم النموذج الأمريكي. يقول ناي: «إذا استطاعت دولة ما أن تجعل قوتها تبدو مشروعة بنظر الآخرين، فإنها ستواجه مقاومة أقل لرغباتها.. وإذا كانت ثقافتها وأيديولوجيتها جذابة، فالآخرون سيتبعونها عن طيب خاطر.. وأساس القوة الناعمة للولايات المتحدة هي السياسات الديمقراطية الليبرالية، واقتصاديات السوق الحرة، والقيم الأساسية مثل حقوق الإنسان..»
خلال عقدين من بداية أطروحة ناي الأولى كانت الشؤون الدولية تدور في فلك توقعاته العريضة، إذ قادت أمريكا حملة لإنشاء وتوسيع المؤسسات الدولية التي من شأنها دعم نظامها العالمي الجديد، مثل منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كما وسعت من نظام التحالفات وحولت منافسين سابقين إلى كنفها؛ ولعب الاتحاد الأوربي دوراً مسانداً لها.. وصار النموذج الأمريكي (الغربي عموماً) للديمقراطية الليبرالية يهيمن على العالم، حتى ظهرت مقولة «نهاية التاريخ» أي أن العالم يتجه لنقطة النهاية السياسية بانتصار النموذج الغربي. كما نمت مبالغة غربية بتحويل بقية العالم إلى نموذجها باعتباره الأوحد، مما اعتبره البعض «غطرسة غربية».. ونجد هذه الفكرة أكثر حِدَّة بالإعلان المشهور للرئيس جورج دبليو بوش بأن الولايات المتحدة «دولة أخلاقية»، مضيفاً إن «الحقيقة الأخلاقية هي نفسها في كل ثقافة، وفي كل زمان، وفي كل مكان.»
يقول البروفيسور إيرك إكس لي (جامعة شنغهاي): «بدا الأمر كما لو أن القرن الحادي والعشرين سينتمي إلى الولايات المتحدة، والغرب، وإمبراطوريتهم العالمية الناعمة. لكن الأمر لم يكن كذلك». لقد حدثت أخطاء فادحة.. فالثورة الاقتصادية النيوليبرالية لم تجلب القوة والرخاء والحكم الرشيد، بل أدت كما يقول عالم الاجتماع الألماني فولفجانج ستريك إلى «تزايد الديون وتزايد عدم المساواة والنمو غير المستقر.. إلى أزمة الحكم السياسي-الاقتصادي». وظهرت أزمات داخلية أدت إلى صعود أغلبية حاكمة مناهضة لليبرالية في دولها: النمسا، التشيك، المجر، إيطاليا، بولندا، وحتى الولايات المتحدة نفسها.. أضف إلى ذلك أن أطروحة «ناي» أغفلت النموذج الصيني الذي أظهر نجاحاً باهراً متحدياً النموذج الغربي..
تزامن ذلك مع انتشار وسائل الإعلام الاجتماعية التي كان الغرب سعيداً بها باعتبارها داعم للقوة الناعمة ولحرية التعبير، لكنه صار منزعجاً مما اعتبره المحاولات الروسية لتخريب السياسة في الغرب والتدخل فيها والزج بأخبار مضللة؛ وظهرت أصوات رسمية تطالب بالرقابة الحكومية على الإنترنت. كما تزايدت المطالب لفرض الرقابة الذاتية، وهذا ما يحصل حالياً، فقبل أيام أعلنت شركة فيسبوك إيقاف 652 مجموعة وصفحة لأنها ضمن حملة تضليل مصدرها إيران؛ وكذلك وللسبب نفسه أعلنت شركة تويتر أنها أوقفت 284 حساباً، وانستغرام 116 صفحة، والآن تشن فيسبوك حملة تقول إنها تتعلق بروسيا (سي إن إن).
من هنا يقول إيرك لي: «القوة الناعمة هي في الواقع هشة للغاية ويمكن تحويلها بسهولة.. فأحد أسس القاعدة الليبرالية الناعمة - حرية التعبير- قد سقط.. والآن، القوة الصلبة في كل مكان.. الولايات المتحدة هي اللاعب الأكبر في هذه اللعبة: النار والغضب نحو كوريا الشمالية، الحروب التجارية على الجميع، تدمير منظمة التجارة العالمية، واستخدام القوانين المحلية لمعاقبة الشركات الأجنبية.. والقائمة تطول».
فهل تآكلت القوى الناعمة؟ لا تزال هذه القوى تنال اهتماماً كبيراً من قادة الدول العظمى، فالقيادات في أمريكا والصين وروسيا، تعلن باستمرار ضرورة تعزيز القوى الناعمة لديها ومزيد من الإنفاق عليها، وتشتد المنافسة بينها في ذلك. لكن تأثير القوى الناعمة تراجع كثيراً لصالح القوى الصلبة، ولا يبدو أن ذلك سيتغير في المدى المنظور. ربما تلعب القوى الناعمة دوراً أكبر في المستقبل إذا تجنبت الدول الكبرى الانزلاق في فخ ثوسيديديس، الفيلسوف اليوناني القديم الذي حدد السبب وراء ذهاب إسبرطة (أمريكا هنا) إلى الحرب مع أثينا (الصين) التي كانت تصعد وتنمو بقوة، بسبب خوف الأولى على بقائها، بحسب تحذير غراهام أليسون من جامعة هارفارد..