د. حمزة السالم
لقد كان ضعف الاتصالات قديمًا، ضرورة ألزمت استخدام الديكتاتورية لفرض النظام. ولكن الدكتاتورية بشكل عام، لم تعد نموذجًا صالحًا لإدارة البلاد في العصر الصناعي الحديث. وقد ظهرت بدايات هذا التحول قبل قرنين من الزمان، مع ظهور أمريكا عالميًا ومع تخلي الدول الأوربية عن أنظمتها الدكتاتورية.
وكون أن الدكتاتورية هي الطريقة التي حُكمت فيها الشعوب في كل أنحاء العالم منذ أن عُرف التاريخ، لذا فقد كان من الصعب محوها من فكر جميع المُنظرين والقادة والفلاسفة عالميًا. فلهذا ظهرت أيدولوجيات جمعت شعبًا أو شعوبًا ووحدت فكرها ونمط حياتها، كالاشتراكية مثلاً. وبغض النظر أن توحيد الفكر ونمط الحياة هو أمر هدام لتطور الشعوب ومعطل لإبداعيتها، إلا أنه كذلك لا يمكن تطبيقه إلا في مجتمع منغلق، كما فعلت الدول الاشتراكية عمومًا. وإغلاق المجتمعات عن العالم الخارجي يحتاج إلى ديكتاتورية تفرض هذا الانغلاق بقوة السلطات.
ومع عولمة الاتصالات والثقافات، لم تعد هذه الأنظمة الديكتاتورية قادرة على فرض هذا الانغلاق على فكر وعقول شعوبها، فانحل الفكر المركزي الموحد فيها والجامع لها، فانهارت واحدة تلو الأخرى.
وقد تأخر العالم العربي والإسلامي بالجملة عن الركب العالمي نحو الحريات، بسبب أن عزلته الفكرية قد فرضتها الشعوب العربية والإسلامية على نفسها بيدها لا بيد الأنظمة الحاكمة لها - كاليابان قديمًا- ،كصدى ثقافي نفسي من الانغلاق الفكري المحلي على المذاهب العقدية والفقهية الإسلامية، المتمثلة في التبعية الفكرية المطلقة للمذاهب المحلية.
فالثورة الفرنسية مثلاً، تولدت بعد مشاركة فرنسا في حرب تحرير أمريكا من بريطانيا، فرجع الجند الفرنسيون بتصورات مختلفة عن الملك والثورة، فثاروا على النظام الملكي القائم آنذاك. والثورة الفرنسية، وإن اهلكت أربابها وخربت ديارها، إلا أنها أيقظت الدول الأوربية المجاورة فسعت تدريجيًا للإصلاح الداخلي وتحقيق العدالة والحريات، كما أن خلع الحزب الاشتراكي الحاكم بالعنف والقوة في رومانيا وبولندا في 1989م قد أيقظ شعوب الدول الاشتراكية الأخرى فتخلت الأحزاب الحاكمة فيها عن السلطة سريعًا تجنبًا لثورات عنيفة دموية قد تقوم بها شعوبها.
والحرية والاقتصاد لازمان ضروريان لثبات استقرار الدول واستدامته. وقد يُغني أحدهما عن الآخر في جلب الاستقرار للدول في المنظور الزمني القصير، ويفشل بمفرده في تثبيت الاستقرار ليدرك الأحفاد.
فالحرية والاقتصاد متلازمان لا ينفكان، يلزم من غياب أحدهما انعدام الآخر. فلا استمرارية للاقتصاد بغياب الحريات، ولا استمرارية للحريات بغياب الاقتصاد. فغياب الحريات يقتل الإبداعية والطموح، وينشر الفساد، مما يقضي على الاقتصاد.
وغياب الاقتصاد ينشر الجهل والمرض. مما يُمكن للسفلة والجهلة في جو الحرية المتوفر أن يستثيروا عواطف الناس باستغلال الفقر والحاجة، فيحركوا الشارع للاستيلاء على السلطة، فيقضوا بعدها على الحريات. ولذا فالحرية والاقتصاد هما دافعا الثورات الشعبية دائماً، وحولهما تدور الشعارات لتعبِّر عن معنى واحد يجمع بين الحرية والاقتصاد هو: التوزيع العادل للثروات.
والفجوات الفكرية بين المُلقي والمُتلقي عامل مهم في إحباط أي فكر تنويري تجديدي ما لم يصبر عليه أهله ويعضوا عليه بالنواجذ، وأكبر مثال على ذلك دعوة نبينا عليه الصلاة والسلام ومراحله المكية ثم مراحله المدنية. وأي مشروع يحمل فكرًا متقدمًا إبداعيًا تنويريًا سيصعب على الناس اليوم فهمه ما دام في حالته التنظيرية ما لم يروه في واقعهم الملموس تطبيقًا حيًا مؤثرًا في حياتهم.
وجماع الأمر في نقد الذات. فنقد الذات ووضع القواعد للنقد هو من أعظم وسائل منع النفس من الانجراف في الحكم الظالم بسبب الهوى أو الفهم الخاطئ بسبب التصورات المسبقة.