خالد العجران
تريثت كثيرًا في كتابة هذا المقال حتى لا أكون ضحية الصدمة الحضارية التي تصيب عادةً من يسافر لبلادٍ تقدمت علميًا ومدنيًا، وكي لا أُدهس تحت عجلات لحظاتها المبهرة؛ لازمت التأني، وحتى أكون أكثر عدالةً في حكمي: أرتديت قبعة المحقق، وأشعلت مصابيح الفكر المنفتح، وتدثرت بمعطف الفخر بكل ما أنتمي له من دينٍ ووطن؛ وها أنا أفتح نافذةً صغيرةً على الميدان التطوعي في أمريكا.
اشتعل فتيل العمل التطوعي المنظم في أمريكا بفرقةٍ تكافح النيران في فيلاديلفيا، على يد العالم الفيزيائي والسياسي المخضرم بنيامين فرانكلين في عام 1736م الذي كُرم لاحقًا بطباعة صورته على العملة الأمريكية فئة المئة دولار، أطلق على الفرقة التطوعية «لواء الدلو» التي احتوت 26 عضوًا، وكانت البداية بتبرع كل عضو بستة دلاء وكيسين من القماش، كانت الدلاء للمياه أما الأكياس فيجمع بها ما يتم إنقاذه من المقتنيات. وزعت الأدوار بينهم، فجزء منهم يكافح النيران المشتعلة، والآخر لحفظ الممتلكات الخاصة، والجزء الأخير يدعم لوجستياً بالتثقيف والتدريب.
استشعرت الدولة حجم التطوع في بناء الوطن؛ فسنّوا القوانين المنظمة والحافظة لحقوق جميع أطراف الميدان التطوعي، وألزموا التعليم بغرس قيمة المسؤولية الاجتماعية؛ فأصبحت هدفًا منشودًا يشارك أهمية المادة التعليمية التي يقدمها المعلم، فانتشرت هذه الثقافة في المجتمع، وترسخت فأصبحت جزءًا مهمًا من تكوينهم وقيمهم.
الأرقام أكثر إقناعًا، ففي آخر الإحصاءات الرسمية بلغ عدد المتطوعين في أمريكا ما يقارب 63 مليون متطوع، محققين في عام 2017م 8 مليارات ساعة، حجم هذا الرقم يوفر لدولة ما يقارب 193 مليار دولار.
سأعرج بمثال على المسؤولية الاجتماعية والدور الحقيقي لمساهمات القطاع الخاص في بناء المجتمع ومساندة الدولة، اخترت «تارقت» هايبرماركت ذات العلامة الحمراء، التي تسهم سنويًا بمليون ساعة تطوعية والتي قيمتها تزيد عن 25 مليون دولار، هذا بخلاف التبرعات المالية والبرامج التي تكلف ملايين الدولارات للمساهمات التعليمية والاجتماعية والإغاثية.
في عمر الدول أمريكا دولة حديثة، ولكنها في التطوع والمسؤولية الاجتماعية هي ممن يشار لهم بالبنان، وما ميزها تطوعيًا هو الاستفادة من أصحاب الميدان الحقيقيين، وضم التطوع ضمن منهج التعليم منذ الصغر، وعدم الاكتفاء بسن القوانين بل تطبيقها بموضوعية، وكذلك تحفيز الناس على التطوع لرفع مهاراتهم وفرصهم الوظيفية عن طريق ساعاتهم التطوعية، كل هذا سهل لو أردنا نقله في ظل رؤية 2030 التي خصصت جزءًا منها لاستغلال طاقات الشباب وتمكينهم في المساهمة في بناء الوطن، وأرجو أن تصل الرسالة لمن يستطيع تغيير واقعنا التطوعي للأفضل، وينفض الغبار عن قيمنا الأصيلة.