د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
تندر علي الوردي 1913-1995م من رجل عامي رآه مصغيًا باهتمام إلى خطيب ذي شأن فسأله: ماذا فهمتَ منه؟ فأجاب: ومن أكون كي أفهم ما يقوله هذا العالِم العظيم؟! ويبدو أن كثيرين فينا صمتوا عن جهلهم أمام نصوص قرأُوها أو منتديات شهدوها احتماءً بهيبة القائل أو المحاضر واتهامًا لأذهانهم التي لا تبلغُ شأوًا تستطيع معه المحاكمة والحكم، وربما كانت فترة «الحداثة» -بمن أفرزته وما أفرزته- شاهدًا على اتقاء الكثيرين مواجهة ذواتهم بادعاء الوعي كي لا يُوصموا بالتخلف المعرفي عن أهم معطيات زمن زاحمته الصحوةُ حتى كادت تخفيه مفسحةً الدرب للحداثة السائلة أو ما عرف بزمن ما بعد الحداثة التي أعقبها «ما بعد بعدها»، ومثلما خلّفت الصحوة من تبرأ منها فقد تخلص حداثيون من إرثهم، ونضجت أجيالٌ جديدة تجاهلت اضطرابات الحداثة وتجاوزت صراعات الصحوة.
** المراجعة قوة والتراجعُ وعي، والفطِن من يقرأ الغد ويستعد لما وراءه دون أن يُستلب بأدلجة أو برمجة، وقبل عقود افتتن بعضُنا بإنشائيات «المنفلوطي» في «النظرات» بعدما أقنعنا أساتذتنا أنها الطريق إلى «صناعة الإنشاء»، وقيل لنا لن تجدوا في الأدب الوجداني أجمل من «رسائل الأحزان والسحاب الأحمر وأوراق الورد» للرافعي، وتجاور هذا التوجيه مع مضادات أيقنت أن الأجدى لنا قراءة «جبران» و»نعيمة» و»مي» ومدرستي المهجر الأميركيتين؛ فوقفنا ثم استفقنا، والحديث يطول لنبلغ استفهامًا آنيًا عما يعتني به الجادون من جيل التسعينيات والألفية المنعتق من ضوضاء الحداثة وسطوة الصحوة وما تعلق بهما من توتر مجتمعي وثقافي أفرز التصنيف تقديسًا وتدنيساً.
** صارالمجتمع مسيسًا بشكل يفوق تسييس الخمسينيات والستينيات الميلادية بفعل توفر المنابر الرقمية المباحة والمستباحة، ولا يعنينا هذا هنا بل فئامٌ من الشباب لم تتلوث قراءاتهم وحواراتهم بجدل المتغيرات فانصرفوا إلى مناقشة الثوابت، وبمتابعة سريعة لا تعطي دلالات قطعية بل مؤشرات عامة فإن بعضهم مهمومٌ بقضايا العقل عبر طرح لا تنقصه الجرأة ولا المعرفة مع اندفاعهم بطرح استفهامات ورؤى حول الكون: مبتدئِه ومصيره؛ مستعيدين تجربة مصطفى محمود في شكه وإيمانه وإسماعيل أدهم في إلحاده وانتحاره، وسواهما من عقلانيي الشرق والغرب في حيرتهم ونظرياتهم، والمؤمل أن يجدوا من يحاورهم دون أن يتهيب طرفٌ علني من آخر مازالت بذوره تحت الأرض كي يقول ويقال له، ويسمع ويُسمع منه،ويُناظر بمنطق ولغة كي لا نكتشف متأخرين أن «العقلانية» –وهي التوصيفُ المحايد للإلحاد- قد أصبحت تيارًا يستعصي التفاهم معه.
** نعود إلى أستاذنا الوردي؛ فمعظم الاستقطابات الحداثية والصحوية والعقلانية تمت لأناس آمنوا بالشخوص قبل النصوص فاندفعوا وتدافعوا، وولَّوا وجهاتهم صوب رموز لا صوب مخرجات، ولم يعِ بعضهم: لم اصطفَّ وأين يقف وإلى متى.
** آفاق الدخول لا تسعُ أنفاق المخارج.