د. عبدالرحمن الشلاش
كنا عندما نشاهد شخصًا يتمتم أو يتحدث مع نفسه أو يسرح في حالة تفكير بعيدة كنا نقول إن هذا شخص مجنون أو به مس، وقد ننعته بأنه مريض فندعو له بالشفاء العاجل. قد نتصور في بعض الأوقات أيضًا أنه موسوس أو منطوٍ على نفسه أو أنه يمر بحالة غير طبيعية فنسأل الله أن يرفع عنه.
مع تطور الدراسات في علم النفس والاجتماع والاتصال بدأنا نكتشف أن هذا الحديث لا علاقة له بالجنون أو الوسوسة أو الهبال بالمسمى الشعبي أو المرض أو المس أو الانطواء، فما هو إلا نوع من الحديث ليس للآخرين ولكنه حديث مع النفس! فما هو إذن الحديث مع النفس، وما مدى علميته، وما فوائده، وهل يجب على كل شخص أن يخصص بعض الوقت للحديث مع نفسه؟
عندما درست مادة مهارات الاتصال لطلابي في الجامعة اكتشفت ما يسمى بمهارة الحديث مع النفس وأنها من أهم المهارات على الإطلاق، وأن على كل إنسان ممارسة نوعين رئيسين من الاتصال في تعاملاته اليومية أحدهما مع الآخرين والثاني مع النفس في حالات الخلوة أو الصفاء، وفي الأجواء الهادئة. تم تعريف الحديث مع النفس بأنه مخاطبة الإنسان لنفسه عن طريق العقل الباطن، فهو طريقة تخاطب بين الشخص ونفسه إما للتفكير في القادم أو تحليل الحاضر أو تقويم الماضي.
يحكم الواحد منا من خلال تخاطبه مع عقله الباطن على القرارات التي أتخذها، ويرتب لاتخاذ قرارات قادمة من خلال مشاورة النفس، لذلك يعتبر علماء الاتصال حديث النفس من أهم مهارات الاتصال على الإطلاق لأن معظم المهارات الأخرى تبنى عليه، إذ لا يمكنك التواصل بطريقة ممتازة مع الغير إذا كنت لا تجيد التواصل بشكل ممتاز مع نفسك، كيف تتحدث بشكل رائع مع غيرك إذا لم ترتب أفكارك وتصيغ عباراتك بالتشاور المستمر مع نفسك، لكن هذا الحديث لا بد أن يكون في حضور العقل والضمير معًا لأن النفس أمارة بالسوء.
من فوائد الحديث مع النفس زيادة الذكاء حيث ينمي القدرة على التحليل والاستنتاج والتركيز, وتكوين رؤية مميزة وقدرة فذة في الحكم على الأمور. أيضًا من فوائده الحكمة فمن الجميل أن تقف على شيء أو أمر معين قد حدث في حياتك، فالحكمة تأتي من خلال القلب والعقل والنفس والضمير فإن مات واحد منها ماتت الحكمة، وعندما تخاطب النفس دائمًا لا يموت أي جزء في الشخص من الأربع المذكورة.
ومع النفس تسرح في الخيال إلى أبعد مدى، تعيش بين عالم الواقع والأحلام وربما تصنع لك مجدًا من تلك الأحلام الصغيرة السابحة في عالم الخيال، والخيال لا يأتي إلا بالتخاطب مع النفس. حديث النفس المقصود ليس له علاقة بالوساوس لأن الوسوسة من عمل الشيطان. قال تعالى {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}.
نحتاج دائمًا للحديث مع أنفسنا كي نتقن التواصل مع الغير. ولنقوم أنفسنا فإن شاهدت أحدهم يتحدث مع نفسه فأحسن الظن به فهذا قد يعيش لحظات تواصل مثمر مع نفسه.