د. فوزية البكر
تحتاج كافة أنواع التنمية السياسية والتشريعية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية لتحقيقها إلى تنمية ثقافية لأفراد المجتمع الذي توجد فيه لتعريفهم بالقيم والمفاهيم والممارسات المرتبطة بكل أشكال التنمية السالفة الذكر مما يساعد على تطوير وعي مجتمعي جديد على شكل قيم ثقافية وممارسات تنعكس على شتي مجالات الحياة مثل استيعاب القيم المرتبطة باستخدام التكنولوجيا خلال نقلها وتربية الذوق الفني وترقية الإحساس الجمالي في التعامل مع كافة المنتجات الثقافية والأدبية والفنية بحيث يصبح الإنسان جزءاً من الحدث أمامه ويتصرف بحضارية ومسؤولية مجتمعية وبيئية.
وحتى يمكن إيضاح هذا المفهوم أكثر سأطرح هنا مثالاً يتكرر في حياتنا كل دقيقة ويؤكد ضرورة خلق قيم التنمية الثقافية في كل جوانب معيشتنا لكوننا لا نستطيع العيش بدونها فعلى سبيل المثال نقوم جميعاً باستيراد سياراتنا من الخارج لتخدمنا في تنقلاتنا اليومية لكن ولأننا لم نحقق التنمية الثقافية المرتبطة بهذه السيارات المتنقلة بجنون داخل شوارعنا بحيث تحقق نمواً ثقافياً موازياً للقيم الحضارية والمدنية والإنسانية المرتبطة بالقيادة الآمنة لذا فإن المملكة تصنف بأنها واحدة من أكثر دول العالم خطراً في قيادة السيارات حيث إن عدد الوفيات يبلغ 24.8 لكل 100 ألف شخص بمعني أن هناك 7440 شخص يتوفى سنوياً من حوادث كان يمكن تلافي بعضها من خلال التنمية الثقافية والوعي بأهم مفاهيم القيادة الآمنة الحضارية.
نحن في حاجة ملحة لإدارة عمليات التنمية الثقافية بما يتواكب مع التغيرات المتسارعة التي حملتها لنا رؤية 2030 وبما يتوافق مع المتطلبات المحلية ويتكيف مع الثقافة العالمية ولما يمر به العالم العربي والإسلامي من تحولات سياسية واقتصادية وقيمية ثقافية عميقة يجعل مناقشة مفهوم التنمية الثقافية أمراً شديد الأهمية في فترة قلقة وحساسة ومن تاريخ الدول العربية.
يعرف سفيان التنمية الثقافية بأنها (في حواس محمود، 2015): تعني التعامل مع عامل (المتغير) في الثقافة السائدة سواء في: الذائقة الجمالية النمطية المستقرة مثل ثقافة الآداب والفنون وجمالياتها أو في منحي التوجه العلمي في الثقافة وذلك بالبحث والتجريب والاختبار أو اكتساب مهارات معرفية تساعد في الانعتاق من إطار النمطية والاستقرار وتسهم في تحقيق تطلعات مستقبلية (ابتكارية) نتجاوز بها مرحلة النقل والتقليد واستيراد المناهج والنظريات والقيم والمفاهيم، مثلما نستورد الآلات والتكنولوجيا في ثقافتنا العلمية والتقنية السائدة.
وتعرف زينب (2015) التنمية الثقافية بأنها قيام مؤسسة أو مؤسسات معينة بطرح برنامج ثقافي معين تعمل من خلاله على تطوير نمط ثقافي كإصدار سلسلة من الكتب أو المجلات الدورية أو إقامة حفلات موسيقية مبرمجة أو معارض فنية متتالية الخ.
رؤية 2030 أكدت في وثائقها على إيجاد مجتمع واع ببيئة مستدامة ومجتمع حيوي وسعيد وهو ما يتطلب الكثير من التنمية الثقافية لتطوير أساليب حياتنا بما يجعلها حيوية ومستقرة وسعيدة بما يحقق التطوير الثقافي الذي نصبو إليه عبر برامج ثقافية وفنية ومتحفية تعالج النقص الذي ساد خلال العشرين سنة الماضية في هذه المجالات وهو ما سبب تعطلاً كبيراً في الذائقة الثقافية والفنية والحضارية للإنسان التي كان يمكن أن تتعامل مع متغيرات العصر وتجعلنا كشعب وحضارة جزءاً من ثقافة العالم لذا وجب علينا أن نتخلص من مخاوفنا التقليدية من الجديد في الثقافة كالمسرح والفنون والرياضة الخ بل يجب علينا أن نبني إستراتيجيات تطبيقية يمكن أن تساعد الشارع في التفاعل مع هذه المتغيرات عن طريق دمج هذه الفعاليات في الحياة اليومية للناس في كل مكان: في الشارع، في المدرسة، على قارعة الطريق وداخل المؤسسات الحكومية والخاصة.
أن إنشاء وزارة خاصة بالثقافة مؤخراً هو علامة واضحة على عناية الدولة بالشأن الثقافي وبما يحققه من تنمية حضارية وثقافية، كما أن وجود هيئة خاصة بالثقافة وهيئة خاصة بالترفيه وغيرها من مؤسسات الدولة التي تعمل على تحقيق أهداف الرؤية لهو مؤشر واضح لخطط إستراتيجية بعيدة المدى لتنمية الوعي الثقافي لدي العامة في كافة انحاء البلاد وبكل الأشكال والصور الثقافية والفنية والموسيقية.
سيكون لكل هذه المؤسسات الثقافية والفنية بإذن الله دور واضح لبناء الذائقة الحضارية والمدنية والفنية ولزرع الرغبة في الاستمتاع بكل الفنون والثقافات لدي الجمهور مع التركيز على الفعاليات الشعبية لكل منطقة في المملكة وهي ثرية جداً وفي ذلك ما يساعد الناس على التفاعل مع المعطيات الأدبية والفنية والتشكيلية ومع التراث الشعبي لكل منطقة وفهم القيم التي تتضمنها وتطوير للذائقة الفنية والأدبية لدى العامة.
لن يستطيع المواطن فهم ما يجري في برامج الرؤية إلا حين يكون ثقافياً ومعرفياً قادراً على فهم القيم الثقافية والفنية والأدبية خلف كل هذه البرامج وهو ما سيرفع من الوعي العام له والذي سيمكنه من أن يستمتع بوجوده وبوطنه. الإستراتيجيات الواضحة التي نتبعها اليوم في مجال التنمية الثقافية كفيلة بإذن الله في خلق مواطن واعٍ لما حوله ومشارك فيه ومحب له. لا نريد أن نكون صورة من الغرب فلدينا تراث محلي في كل بقعة من بلادنا لكننا أيضاً لا نريد أن ننكفئ على أنفسنا فلا نعرف ما يجري في العالم الذي نحن اليوم جزء لا يتجزأ منه.